كمال ازنيدر يكتب: نكسات حزب العدالة والتنمية وانعكاساتها على حقل الإسلاموية
ليست المرة الأولى التي يسيء فيها حزب العدالة والتنمية المغربي لسمعة الإسلام السياسي. هذا الحزب اعتاد تلطيخ وتشويه صورة هذا التيار الديني السياسي وله تاريخ طويل عريض في هذا الباب. فمنذ خروجه من المعارضة وبداية تجربته الحكومية، لم نشهد منه إلى يومنا هذا سوى النكسة تلو الأخرى.
أداؤه الحكومي طيلة هذه السنوات التسع كرس النظرة السوداوية التي كان ينظر بها للإسلاميين وأكد صحة كل الإشاعات التي كانت تروج بشأنهم. عوض أن يبيض صورة الإسلام السياسي، سودها أكثر مما هي كانت سوداء ومنح لأعداء هذا التوجه فرصا ذهبية ليمضوا قدما في شيطنتهم لأتباعه ووصفهم بالمنافقين والدجالين والنصابين وتجار الدين.
فحزب العدالة والتنمية، في عز حملته الانتخابية لسنة 2011، قدم للشارع المغربي وعودا بالتقليص من عدد الوزراء ونفقات الحكومة وكذا البرلمان. أيضا أعطى تعهدات بمحاربة الفساد والمفسدين وتحسين ظروف عيش المواطنين… لكن بعد فوزه بالانتخابات التشريعية وترأسه للحكومة المغربية طيلة هذه السنوات، ماذا كانت الحصيلة؟!
بداية أعلن للشعب عن تشكيل حكومة مؤلفة من 39 وزيرا عوض 15 وزير كما سبق ووعد بذلك في برنامجه الانتخابي… وكان هذا أول انقلاب على وعوده وتعهداته الانتخابية، بل وأيضا على مواقفه عندما كان حزبا في المعارضة وكذا خلفيته الأيديولوجية الرافضة للتبذير الحكومي والداعية إلى عقلنة النفقات الميزانياتية.
ثم بعد هذا فاجئنا وهو يقوم بتمرير قانون للمالية ارتفعت فيه قيم الميزانية المخصصة للقصر في وقت كنا نتوقع أن تعرف فيه بعض الانخفاض وكذا ميزانية البرلمان التي حطمت في عهد ترأس حزب العدالة والتنمية للحكومة المغربية كل الأرقام القياسية، هي ونظيرتها المخصصة للنفقات الحكومية.
كما تكرم وأغدق على القضاة وقادة الجيش وغيرهم من الموظفين السامين بالرفع من قيمة مداخيلهم (أجور وامتيازات) … قام بكل هذا في وقت كان يرفض فيه مطالب النقابات العمالية والمهنية بالزيادة في أجور العمال والموظفين العاديين ويبرر رفضه هذا بالأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد!
اقرأ ايضاً | كمال ازنيدر يكتب: انحرافات الدولة أو الخطر المهدد لوحدة البلاد
سلسلة جوده وكرمه على كل الفئات والطبقات باستثناء الطبقات الشعبية لم تتوقف عند هذا الحد، إذ بعد هذا سيقوم بمنح رئيس الحكومة السابق، السيد عبد الإله بنكيران، تقاعدا خياليا، وهو الذي كان ينتقد الحكومات السابقة ويعيب عليها ما كانت تخصصه لأجور وتقاعدات الوزراء ويدعوها إلى التقشف مذكرا إياها بنهج عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) وقوله الشهير: “قرقري أو لا تقرقري، لن تذوقي طعم اللحم حتى يشبع أطفال المسلمين”.
هذا فيما يخص انقلاباته على وعوده وتعهداته الانتخابية في الشق المتعلق بالتدبير الميزانياتي. أما فيما يخص الشق المتعلق بمحاربة الفساد، فقد انتظرنا من الحزب محاربة رؤوس الإجرام والفساد الذين نهبوا خيرات هذا البلد واغتنوا بتفقير وتجويع هذا الشعب، لكننا فوجئنا به وهو يعفوا عنهم ويضع يده في يدهم ويتحدث عنهم وكأنهم ملائكة قدموا من السماء لينقذوا المغرب من التخلف والهلاك!
وفيما يخص الشق المتعلق بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعب المغربي، قام برفع الدعم عن مجموعة من المواد الأساسية وتسبب بهذا في ارتفاع أسعار هذه المواد ومواد أخرى تدخل في نفقاتها الإنتاجية، الشيء الذي نتج عنه غلاء المعيشة، تدهور مستوى عيش المواطنين، وبلوغ نسبة الأسر المغربية التي تلجأ للاقتراض أو تغطي مصاريفها بشق الأنفس نسبا لم يسبق الوصول إليها من قبل (94%).
ومما زاد الطين بلة، انفضاح العلاقات المشبوهة واللاشرعية للعديد من قياديات وقياديي هذا الحزب الذي يدعي التقوى والورع بعد انكشاف أمر الحبيب الشوباني وسمية بنخلدون، عمر بنحماد وفاطمة النجار، محمد يتيم وقصة غرامه مع ممرضة مختصة في التدليك تصغره بالعشرات من السنين، إلى آخره…
وختامه مسك… قبل أربعة أشهر، أكد السيد سعد الدين العثماني في كلمة ألقاها في افتتاح الملتقى الوطني السادس عشر لشبيبة العدالة والتنمية أن “التطبيع مع الكيان الصهيوني هو دفع وتحفيز له لكي يزيد في انتهاكه لحقوق الشعب الفلسطيني والالتفاف على تلك الحقوق”. ثم ها هو اليوم يوقع على إعلان مشترك بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني يعلن عن “تدشين عهد جديد في العلاقات بين المملكة المغربية ودولة إسرائيل”.
حزب العدالة والتنمية، لحظة صياغته لبرنامجه الانتخابي سنة 2011، ربما لم يكن مدركا أن المعارضة البرلمانية شيء والممارسة الحكومية شيء آخر. ربما… بحكم أن قادته كانوا حينها يفتقرون للخبرة في مجال العمل الحكومي من جهة، ومن جهة أخرى هم ليس لديهم تكوين عالي في مجالي العلوم السياسية والتدبير العمومي الحديث يسمح لهم بالاطلاع على نظريات محورية تؤطر الممارسة الحكومية كنظرية “تبعية المسار” على سبيل المثال.
في تلك الفترة، الحزب هذا ربما كان يجهل أنه حتى في الأنظمة الأكثر ديمقراطية والتي تمتلك فيها الحكومة سلطات حقيقية وجد واسعة، الحزب الحاكم لا يقرر لوحده. إذ تتداخل معه في عملية صنع القرار مجموعة من الجهات الفاعلة، بالإضافة إلى عوامل أخرى – منها ما هو تاريخي وما هو اجتماعي واقتصادي – تقيده وتفرض عليه نهج سياسات وإصدار قرارات لا تعبر عن إرادته الحزبية ولا ترقى إلى مستوى مثله الأيديولوجية أو بعيدة عنها كليا.
فعندما يتعلق الأمر بالممارسة الحكومية أو تدبير الشأن العمومي، علينا نسيان الامتثالية للمرجعية الأيديولوجية والشعارات الحزبية وكذا الامتثالية للعقلانية المطلقة المفترضة في عملية صناعة القرار. فالحزب الحاكم أو الذي يقود الحكومة نادرا ما يجد نفسه في موضع قوة أو أريحية يسمح له باختيار الخيار الأمثل أو المعبر عن قناعاته الحزبية والمتماشي مع خلفيته الأيديولوجية. إذ في غالب الأحيان يتخذ قرارات مرضية للجهات الفاعلة المتداخلة في عملية صنع القرار لا تتوافق مع أفكاره ومواقفه الحزبية، الشيء الذي في حالات عديدة يؤثر سلبا على شعبيته وسمعته في أعين الشعب وتارة حتى في أعين فئات عريضة من قواعده وشبيباته الحزبية.
وبالتالي بعد خوضه لأولى تجاربه الحكومية، وبعدما تبين له أن المعارضة البرلمانية شيء والممارسة الحكومية شيء آخر وأنه ليس في وضع يسمح له بتنفيذ برنامجه الانتخابي والوفاء بوعوده وتعهداته للمواطن المغربي، كان حريا بأعضائه تقديم استقالة جماعية من الحكومة. كان هذا سيحفظ كرامتهم ومكانة حزبهم في قلوب الملايين من المغاربة… لكنهم آثروا أطماعهم ومصالحهم الشخصية على المصلحة الحزبية.
خيارهم هذا وتمسكهم بمغريات السلطة أضر كثيرا بحزب العدالة والتنمية بشكل خاص وبشكل عام بالإسلام السياسي. أداؤهم الحكومي، انقلاباتهم وسلسلة فضائحهم، كل هذه أمور لم تخدم الإسلام السياسي في شيء بل كرست كل الإشاعات السيئة التي كانت تحوم حوله. فالتجربة الحكومية لهؤلاء الإسلامويين لوثت سمعة هذا التيار أكثر مما هي ملوثة وأكدت أنه للأسف الشديد مستنقع قذر مليء بالمنافقين والنصابين والدجالين الذين يستغلون الدين وكذا سذاجة المواطنين للوصول للسلطة والحصول على أكبر ثروة ممكنة.
وأخشى ما أخشاه أن يكون لهذه التجربة الفاشلة انعكاس سلبي على معاركنا ضد التطرف والإرهاب. فحزب العدالة والتنمية لعب منذ نشأته دورا كبيرا في مكافحة المد الفكري الإرهابي. بفضل تواجده في الرقعة السياسية وتميزه في لعب أدوار معارضة بطولية، نجح في إبعاد العديد من الشباب المغاربة عن فخاخ التنظيمات الإرهابية وحمانا من جهنم وقوعهم فيها.
اقرأ ايضاً | كمال ازنيدر: إسرائيل.. مدرسة في فن التواصل والدعاية السياسية
وهذه خدمة مجتمعية ثمينة تحسب لهذا الحزب وتحسب كذلك لجماعة العدل والإحسان. هذه الجماعة، صحيح لها جوانب فكرية مقرفة وأخرى خرافية مثيرة للسخرية. أيديولوجيتها، في جزء من مناحيها فيها ما فيها من الظلامية والرجعية. لكن، والحق يقال، إلى جانب مساوئها فلها منفعة مجتمعية مهمة تتجلى في الحماية من الإرهاب وتقديم خيار بديل للجهاد الإرهابي.
إلا أن مثل هذه النكسات والردات السياسية – وخصوصا التطبيع مع الكيان الصهيوني – التي تصيب الشباب الإسلاموي بالصدمة وتولد بداخله الكثير من الغضب والسخط، قد يكون لها عواقب وخيمة لا تحمد عقباها، إذ من شأنها أن تتسبب في فقدان البعض من هؤلاء الشباب للإيمان بالمنظومات الإسلاموية المتبنية لمنهجية العمل السياسي الحديث القائم على المشاركة السياسية والنضال السلمي وبالتالي جعلهم قابلين وعلى أتم استعداد للارتماء في أحضان التنظيمات الإرهابية.
فمصائب الإسلام السياسي السلمي عند الإسلام السياسي الإرهابي فوائد… انكشاف خيانات الجماعات والأحزاب الإسلاموية التي قبلت بمفاهيم المشاركة السياسية والمنافسة الانتخابية والاحتكام لصناديق الاقتراع كآليات للوصول إلى السلطة ونفاق وفساد قيادييها دائما ما يعودون بالنفع على تنظيمات السلفية الجهادية التي تتربص بنا منذ سنين وتستغل أخطاء سياساتنا لتبرير استهدافنا وقيامها بعمليات إرهابية فوق أراضينا.
من ألقوا بحزب العدالة والتنمية في هذا المستنقع القذر الذي هو اليوم يغرق فيه، وخصوصا تلك الأيادي التي تتحكم فيه وتحركه عن بعد، لم يحسبوها جيدا. فنحن اليوم بالمغرب لسنا أمام نهاية الإسلام السياسي، إنما نحن فقط أمام انهيار حائط كان يحمينا من شبح التطرف والإرهاب الإسلاموي.
أفول نجم حزب العدالة والتنمية أو انهياره، من الخطأ عده نهاية للإسلاموية لأن هذا التيار ببلدنا لم يكن يوما حكرا على هذا الحزب، إذ هناك جماعة العدل والإحسان وحزب النهضة والفضيلة وتنظيمات أخرى. الأفول هذا أو الانهيار هو فقط ضربة موجعة للإسلام السياسي السلمي… وربما بداية فترة عصيبة سينتعش فيها الإرهاب.
كمال ازنيدر: كاتب إسلامي وباحث في الأداء السياسي والمؤسساتي
اقرأ للكاتب
كمال ازنيدر يكتب: النزاع الصحراوي… من الخاسر ومن الرابح؟!