قراءة فى نظارة “العشماوي” السوداء في رواية “سيدة الزمالك”
عرض وقراءة : حامد راشد
بنهاية مفتوحة مثيرة للغاية وسرد بديع لخمسة شخصيات روائية مركبة مدهشة يفاجئنا العشماوي بروايته الجديدة سيدة الزمالك وان كنت اتمنى لو كان أسماها قلب النخلة فهي اقرب للاحداث بكثير من عنوانها الحالي. رواية ضخمة كعادة العشماوي تقترب من 400 صفحة تقريبا لكنها ايضا غير مملة كالمعتاد ،هو واحد من القلائل في مصر والوطن العربي ممن يجيدون لعبة وماذا بعد ببراعة منقطعة النظير، يمسك بتلابيبك ولا يتركك حتى تكمل روايته لاخر كلمة فيها. هو باختصار واحد ممن يملكون شفرة التشويق الروائي والقصصي فى مصر والعالم العربي.
بانوراما مؤلمة لمصر الحديثة بعيون اشرف العشماوي هذا الروائي الذي لمع اسمه منذ سنوات فى مجال الرواية بعدة ابداعات رائعة ، يعود ليضرب من جديد لكن تلك المرة جائت الضربات موجعة مؤلمة بعضها للاسف تحت الحزام خاصة فى فصل النكسة الذي روى فيه وربما لاول مرة فى الادب العربي كواليس ما حدث لنعرف لماذا وقع ، مزيج من خيال وواقع أليم ففتح جراحا كنا نظن انها اندملت لكنه يصر على نكأها.
الرواية على المستوى الادبي جيدة جدا للغاية حتى رغم ضخامتها فالملل ابعد ما يكون عن سطورها لم يترهل منه السرد فقد لجأ لحيلة خبيثة ان يروي على لسان الشخصيات العادية المهمشة التي لا يعرفها التاريخ فهي من خلقه وابنة خياله ، فكل فصل تظهر شخصية من شخصياته الخمسة لتروي لنا جانبا جديدا من الحكاية وكلما توقعنا شيئا فاجئنا بأنه غير صحيح، تلك موهبة ولا شك لكن ماذا بعد؟ ماذا أردت ان تقول لنا يا حضرة الاديب القاضي؟ الواقع انه قال بهدوء شديد كلاما عميقا كثيرا بلغة بديعة ملخصه أنه لا فائدة، اننا نكرر نفس الاخطاء ولا نتعلم ابدا . تلك اللعبة أدمنها العشماوي وصارت أيقونة رواياته انه يؤرخ للعصر الملكي وما بعد يوليو حتى نهاية عصر السادات واجاد في تقديمها من زوايا مختلفة كل مرة، التاريخ كما يراه هو بعمق، لم يكذب العشماوي ولم يتجمل لكنه ينتقي لحظات شديدة السواد ويبني عليها ربما يكون محقا فى الكثير مما قاله لكن يا سيدي القاضي ويا حضرة الاديب الروائي المتمكن رفقا بشباب يقرأ لك لاول مرة ولا زال لديه بعض الامل فيما هو قادم فأنت بذلك ربما تهدم اكثر مما تبني بغير قصد منك حتى لو بصرتنا بالاخطاء .
بعيدا عن السياسة التي جعلها خلفية لكل رواياته ، فقد اعجبني بناء الرواية ورسم شخصياتها لكن الشخصية التي توقفت امامها كثيرا هي زينب المحلاوي هي فى نظري سيدة الزمالك التي قصدها العشماوي هى التي كشفت زيف سكان هذه المنطقة المحظورة على الغالبية من شعب مصر المقهور اجاد العشماوي فى تشريح تلك الطبقة الطفيلية وكشف عيوب غيرها من الارستقراطية المصرية فتحتار الى اي طبقة ينتمي العشماوي وما هي ايدولوجيته الحقيقية وان كنت اشعر دوما انه يميل الى اليسار على نحو ما . ايضا جاء رسم شخصية الارهابي طارق المصري مختلفا غير نمطيا كتبها العشماوي بوعي مستندا ولا شك الى تحقيقات اجراها على مدار سنين طويلة مع ارهابيين اثناء فترة عمله بالنيابة العامة فاستطاع ان يرسم لنا صورة ارهابي متطرف شاذ عقليا سيكوباتي حقيقي بداخله طفل مزعج يريد الحصول على كل شئ دون مجهود يذكر احادي التفكير وانطوائي ، ايضا رسم الشخصية الانتهازية فى طارق جاء موفقا للغاية ومبررا لكل تصرفاته بما فيها هدم قلب النخلة على من فيها دون ناديا التي احبها .
الرواية رغم كابوسية بعض فصولها لا تخلو من خفة ظل هائلة وهذا الروائي لو كتب ادبا ساخرا لتفوق فيه بسهولة فهو يلقي بالتناقض فى سخرية عالية ويمضي بهدوء لعبارة اخرى وكأنه لم يفعل شيئا او بالاحرى كانه يعزف مقطوعة موسيقية يحبها.
الرواية من الصعب تصنيفها ما بين ادب الجريمة وكونها اجتماعية او رواية شخصيات ، فقد جمع العشماوي الثلاث انواع فى سلة واحدة وقدمها بطريقة رائقة بدا لي فى فصول كثيرة انه يعزف سيفونية لا يكتب رواية ، نجح الكاتب فى جعل دموع القارئ تنحدر بسهولة مع طارق المصري فى سجنه الذي قدمه بطريقة مبتكرة وجديدة دون افتعال او تكرار لأدب السجون ، أما مشهد لقاء طارق بعادل رمزي فلا يمكنك الا ان تبكي ألما وحزنا على شاب ضاعت حياته سدى.هذا مشهد سينمائي بامتياز ابدع العشماوي فى تصويره وابدع ايضا فى اختيار الحوار الملائم له تماما وكان حكيما ومحقا الى حد كبير فى كل ما قاله على لسان شخصية عادل رمزي .
لا أعرف متى يكتب العشماوي رواية قصيرة وقد يرى البعض ولست منهم أنه لن يفلح فهو يحب القماشة العريضة وهو أيضا يقول ذلك فى ندواته باستمرار، صحيح أن العشماوي يمتلك من القدرة على الحكي و التشويق والجذب ما يشجعه على الروايات الطويلة باقتدار واحترافية ، لكن همسة فى أذن مبدع حقيقي من قارئ مخلص قبل كل شئ معجب بفنه . اقول له أن هذا النوع من الروايات الطويلة يستنزف الكاتب ويجعل موهبته تموت مبكرا فلن يسمح الخيال والبدن والسن للعقل بأن يستمر فى كتابة روايات طويلة طوال العمر وربما فى القصص القصيرة والنوفيلا ما يجعلك ترتاح قليلا وتلتقط انفاسك . قد يحب قارئك هذا اللون اكثر لكن لا تنخدع بحب القراء الان ، ففي وقت لاحق لن يقدر خيالك على المزيد من هذه الرحلات الطويلة عبر الزمن او تلك التاريخية الموغلة فى مناطق مظلمة تجيد انارتها بقلمك ، ووقتها ستكتب بروح اقل وسنفقد كاتبا مبدعا بحق وحقيق ، فأرجوك حافظ على موهبتك قبل فوات الاوان . ربما لن يعجب كلامي بعض قراء العشماوي وهم بالالاف الان لكنني اريد رؤية ابداعه بنفس قصير فى نوفيلا ولا شك عندي انه قادر على فعلها فالاديب الحقيقي مثله لابد وان يكون متنوعا فى كل فنون الكتابة .