خفقات فــي صــدري…”قصــة”- الجزء الأول

تأليف :  نادية حلمي

يا شريان القلب .. يخفق قلبي بكِ خفقان الجنين في أحشاء الأم

يا فخر كوني .. جياشة بين الأضلع .. يالؤلؤة في عين الشمس

حبا تغدقين .. حنينا تُدفقين كأنهار تجرى فى العروق ..

يا فياضة بالعطاء .. عند مولدي إعتراكى سرور الفرح . ومن النهد إرتويت الشَّهد

يا أم حانية بأولادها يخفق سحركى في حنايا الروح. ساكنة سحيق أعماقي..

يا مالكة سويداء القلب .. لا تلومي بالأمس سكنات حماسي

كانت حكمة أنتظار المنتصر على المغتصب .. كانت حكمة أدركتُها ساعة الصفر

حين أنهالت نيران أسود القتال بالهجوم الشرسٍ المدروسٍ .. حاصرت أسود الصحراء العدوّ من كل الجبهات .. أرض . جو . بحر …

فى لحظات وجد نفسه المتُغطرس محاصر حصار الموت.. فى لحظات وجد نفسه وسط جحيم اسمه المقاتل المصرى.. أمام الضربات الضارية سقط مهزوما.

وتحطمت الأسطورة .. أسطورة السد المنيع ودارت المعارك وأنهار الخط اللعين وأنتصرنا أنتصار هزّ العالم بأسره وتنهد على أرضك يا سيناء شهدائنا الصعداء وأندلعت نار الحياة الوردية فى وجنتيك فبدأ الوجه الشاحب جميلا..

دفَّق فرح الأنتصار فى الشرايين دِفئا .. ووثبت السكنات الهاربة بالصمت الصارخ في أعماق الركود..

قفزت وفى يدها شعلة الأمل بالمستقبل وذهبت غيمة السماء من فوق أرضك يا عظيمة وتُسجلين على صفحات الكون الكبير التاريخ العظيم انتصارات أكتوبر المجيدة في صفوف العُظماء جنبا بجنب ومن الأزل عظيمة.

لحظتها وثبت خلايا جسدي الراقدة فُتورا بالإنتظار الطويل بينما كان الإنتظار حِكمة وزالت المخاوف الساكنة صمت الأعوام وفى حُجرات بيتي الواسعة رقصت كثيراً أطربت الروح حين تهّللت بمصرَّيتي.. مصرية أنا .. اسم وسام على صدري.

خالج النفس بالسلام ومرّ عام وعامان وزهوة الفرح بهتت .. أخذ يتسرب للنفس الملل حتى يوم تَراَمى للمسامع صريرها فتحرَّك الدفء فى صدرى..

كانت امرأة طاعنة في السن سألتها ما أسمك ؟

قالت : شمس الأصيل .. قلت شمسك يا مصر .. إليها انجذبت ولا أدرى لم ؟

ربما سمرتها. سمرة النيل ، ربما فتنتها. فتنة المصرية، ملامحها ، حرارة صوتها، حماسها، دفء أنفاسها، صِدق إحساسها، شُموخها، إعتزازها بنفسها، ربما مصريتها، وربما رأيت فيها زمن الحب السالف النقى من كل نوايا مُغرضة..

باختصار لمست شريان قلبى.. حّركت الوجدان. فجرت مكنون الصدر الكامن بالوطن بعيدا عن النفس .. حدث هذا حين سمعت أهم مرحلة حدثت بحياتها.

استشهاد ولداها .. إحداهما على أرض بورسعيد والآخر على أرض سيناء. أيقظت بقولها خلايا الاستشعار الغافلة عن نفسها.. حرّكت مكنُونات غافلة كسولة فى صدرى.. اجتاحنى صوتها الحانى .. بالحنين الهارب .. تصورت شهدائنا وطوانى إحساس فياض بالشكر الصادق من غير قناع وأخذتنى بها الغيرة سقطت فى جّب الغضب .. لما لا أكون مثلها.. لما أنا بهذا الفُتور.

وثارت أنفاسي ثائِرة على نفسها.. ثورة المصري على العدّو .. لما لا أكون في مثل شجاعتها من أجل الوطن. لما لا أكون فياضة بالعطاء وفى حكمتها وفى عظمتها وفى شجاعتها حينما تدفقت دماء شرايينها دفاعا عن الوطن .. تهّللت.

وأسأل نفسي لو أستطيع العطاء مثلها من دمى وروحي لارتاح القلب ولكن كيف ؟ وتنقصني شجاعتها.. ربما الغيرة تكون دافعا لذلك والغيرة تحمل وجهين إحداهما شرّاً والآخر خيرّا ومنها سأختار الخير..

لقد كَشَفت صاحبة الصوت الحاني عن شخص بداخلي جدير بالحب والأحترام..

أكتشفت في أعماق نفسي شجاعة المُقاتل .. من قَدَمتُ أبنائها دفاع عن أرض الوطن حركت مكنُونات أعماقي .. من إستشهد أبناءها من أجل المصير والشيخ والأم والصغير سلبتني أنانيتي.. رأيت انحنائي لها شرفا..

هزتني من لم تهزم الشيخوخة عطائها.. هزمتني دموعها المتدفقة بفرح الانتصار أنهارا استشهاد أبنائها تاج فوق رأسها.. أذهلتني شجاعتها .. بدَّلتنى وأصبحت إنسانه أخرى..

من خِلالها تخلّلت روحي أرض المعارك.. أرض البطولات والتضحيات .. بالروح  ذهبت .. صورت الأحداث على صدرها.. أنين شمس الأصيل أخفق قلبي خفقان الباحث عن شيء ما .. جاش في صدري حنينا ووثبات قفزت بين الأضلع واثبه حين لاذت روحها من الجسد الواهن هاربة.. وسكرات غريق على وجهها تؤرجحها فتبدو كنائمة وفى الصدر خفقات المُشتاق بالجسد الراقد بين الأجساد النائمة بِلا فزع على صدرك يا سيناء.. قد خفقة قلب دافئة في الصدر أو قطرة دم في الشريان باقية تعيد الأنفاس المتهدَّ جة بالفراق سكناتها..

قد لمسة أو همسة تبعد مخَاَوِفها..

خائفة شمس الأصيل.. لا يكون الحبيب بين حبال الأعداء أسيرا .. وليس على أرضك يا سيناء شهيدا..

الأسر حزنها والاستشهاد فخرها.. شعرت لحظتها كم ضئيلة أنا أمام جبل ثابت .. أنها هرم شامخ .. أمام نفس أنانية متبلدة الحَدَسَ بالوطن.

الوطن بقولها ليس لَقَبُ وإنما إرتباط رُوحى وعطاء ثم عطاء..

وجدت نفسى صغيرة أمام بحر دفّاق .. غدت دماء شرايينها للأعماق .. غائرة وهدأ البركان الثائر يا سيناء فى الأحشاء وثارت نفسي.. لا لن أكون اقل منها وطنية ها يا حبيبتي روحي وها دمى طوع بين يداكى.. أشواقها بشهدائها تُنادى شوقا وأسألها نادمة يا جدتي للحرب .. تجيب وقوة العظماء تسرى فى دمائها تتخلل أنفاسها .. لا .. استشهاد المُدافع عن وطنه فَخَاراَ.. كموت المُدافع عن الشرف شرفا وفى الانتصار عزائيِ . جلدي وبقائي وبينما حنينا تصرخ بهما أشواقها اندفع بثقه.. إذن أم الأبطال يا أمى.. ليس من قوة على الأرض فى التضحيات تساويها .. تُجيب وأمل يُخالجها.. هناك قوة تفوق كل التضحيات..

وأنتظر استرسالها وتكمل قوة السلام ..

السلام قوة لا يساويها على الأرض قوة .. أََعشقه عِشق الرُوح للجسد ..

أعشقه عِشُقَ الرضًّيع لنهد الأم .. صافى كالسماء ..  نقيا كالرضِيع دافئ دفيء الأم الحانية.. قوى كدُعاة السلام على الأرض يا مصر .. سلام لنيلك .. سلام لوطنك .. أنه أبيض هفهاف كثوب العرُس .. معطرا كرحيق الورد ذهول يأخذني وفى الحديث الجدة مسترسلة.. لو على الأرض بين البشر سلام لأصبح العالم بستان كبير.. لو على الأرض بين البشر سلام ما سرق سارق شبرا من أرض وما تدفقت دماء الشهداء دفاعا عن المصير وما دمعة طفرت من عين أم لطفل ولكبير..

وبصوت تتلاشى أنفاسه خلف أعماق البكاء تستطرد … وما كان حدث لى وسعياً ألهث لإسعاد اليتيم الصغير.. وما كنت تألمتى بالبكاء متأثرة بالصرير.. وما كُنتَ فى عينيكى رمقت لهب العدو المغتصب الشرير.. لظل الفجر مشرقا في رحم السماء ورحل اليوم العسير.

لاسترسلت الشمس مضيئة كالبهاء المنير دون سُحب داكنة .. لا في الصدور إختنق سواد الضمير .. تسترسل الجدة وزفيرات صدرها المتوارية خلف قضبان الألم يعتلِجُها شوق بشهدائها وهم في عالم الأموات أحياء .. هذا قولها..

وتقول استشهاد الأول على أرضك يا بورسعيد كان بمثابة صاعقة . صعقتني .. أحرق لهيبها جمال ثوب العرس وفى الثاني هدرت السماء وهطلت الأمطار دمعاً وخلعت الثوب المزخرف بألوان الربيع..

تصمت متأثرة وفى عينيها أقرأ ما قد عجز عنه اللسان.. أشتاق لكما يا من تدفقت دمائكما وانسابت فى أحشاء الأرض راحه ..

وهز الانتصار كياني فرحا …

تتحدث الجدة وعرق العناء يتصيب أمطار للأرض.. أتعاطف مع أم مزّق رحيل أبنائها في الصدر أنفاسها وبالرحيل راضية .. أشعر بها كجزء من أجزاء جسدي.. أتعذب بألامها.. من فجرّت مشاعر عن الوجدان متوارية.. في مكمن بعيد من نفسي لم يطرق بابها أحدا سواها.. مشاعرها الفياضة طرقت باباً من خلفه مشاعر جياشة.. أحملها في شرايين دمى.. لمست الوتر الحساس فوثب القلب فياض بالمشاعر النبيلة.. حرك صدقها وطنيتي..

هزَّتني من لم تُبدد الشيخوخة إيمانها العظيم بوطنيتها .. تأثرت بها .. بصوتها قبلما أراها.. وحين رأيتها اهتزت مشاعري الراقدة على جبل الثلوج.

كانت جاثية على ركبتيها بدمع العين تلتقط حبات الحلوى من تحت أقدام الواقفين حبة تلو حبة .. تأملتها وانجذاب جذبني إليها حين نظرت لي أوجست أرواحنا تتعانق كالغائب زمن عن الآخر.. بينما لم أعرفها .. من عرفتني باختصار الكلمات على نفسي لم أراها  قبل ذلك .. وكأني رأيتها من زمن سلف .. حدثتني عما يجيش في صدرها ربما روادها ما راودنى .. اعتراني شعور بالراحة حين رأيتها وفى سياق الحديث أسألها.. أساخطة يا أمي على الحرب .. فابتسامة على ثغرها وحنين يتخلل أنفاسها تجيب قائلة : تصدقيني لو قلت لكي .. لو كان لدى من الأبناء ثلاثة أو أربعة لكنت قدمتهم قربانا فداء للوطن.. من قولها أندهش وأسأل نفسي أحبُّ هذا أم جحود بأبنائها واسمع أنينها في الصدر منتظما كعقرب الساعة يطَّن وخفقات قلبها معا خفقة بخفقه.. مستحيل أن يكون تمثيلا وتستطرد الأم وأن  كان فُراقها يقُتلَنِي في كل ثانية مرة منها أطلب السماح .. سامحينى بصوت دفين لقد ظلمتك وأسألها سؤال آخر والزوج أقصد الأب والدهما .. تقاطعني .. رحل .. نعمت روحه  بالراحة .. لحظة الانتصار كما لو كانت تنتظر اللحظة العظيمة لتنام هادئة في مقرها وتتأمل الطفل الجميل الطلعة الذى في صحبتها وهو لا يتجاوز السابعة من العمر مستطردة.

يتبع …. الجزء الثاني 

الأديبة نادية حلمى
الأديبة نادية حلمى

اقرأ للأديبة

ولكل صوت صوت…”قصــة”

شكرا للتعليق على الموضوع