علماء فى التاريخ الاسلامى … ابن زهر الإشبيلي

يحفل تاريخنا العريق بأعلام بارزين أسهموا في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وكانوا وما زالوا نجوماً مشرقة في سماء العلم، نذروا أنفسهم لخدمة البشرية كافة، وقدَّموا جهوداً مشرِّفة في مجالات شتى، منها الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، وغيرها من العلوم الإنسانية، وأثَّرت جهودهم في النهضة الأوروبية تأثيراً اعترف به الأوروبيون أنفسهم.

وخلال شهر رمضان المبارك، تحيي “التلغراف” ذكرى هؤلاء العلماء، وترحل مع القارئ في عوالمهم الفسيحة، كاشفةً اللثام عن إنجازاتهم التي شكَّلت حلقة في مسيرة التطور، والتي قد اعترى بعضَها النسيان والظلم التاريخي أحياناً.

فيرى جمع من الدارسين أن من بين أسباب العجز عن إقامة أنظمة علمية ناجحة غياب العمل بروح الفريق، فالباحثون يعملون وكأنهم في جزر منعزلة، وهناك أنانية مفرطة في البحث تؤدي إلى إنتاج أبحاث متكررة ومتشابهة، وفي حين تشتمل هذه الرؤية على الكثير من الصواب، فإنها تسقط رهينة المبالغة حين تحسب العمل الجماعي سمةً غربيةً ليست من طبيعة الشخصية العربية والإسلامية.

في القرن السادس الهجري، وفي ظل ريعان الازدهار في الأندلس، عرف المجتمع العلمي ظاهرة فريدة تكاد تتميز بها الحضارة العربية الإسلامية بين سائر الحضارات، هي فرق العمل العلمية التي يرتبط أفرادها بعلاقات دم وقرابة إلى جانب اشتغالهم بالبحث العلمي، ومن بين تلك الفرق نبغ فريق بني زُهر في ميدان الطب والعلوم الطبيعية والكيميائية، الذي بلغت بنيته أجيالاً متعاقبة من العلماء، برز فيهم نجم هذه الأسرة ونجيبها عبد الملك بن زهر بن عبد الملك الإيادي، المعروف بـ”ابن زهر الإشبيلي”، الذي لم يكن في عصره من يماثله في صنعته، الذي مثَّل قمةً فكرية سامقة، عادت بالنفع الكثير على تاريخ الإنسانية جميعها بلا تمييز.

وُلد ابن زهر في إشبيلية عام 464هـ، ولحق بأبيه في مهنة الطب والبحث وطلب العلم، سائراً في الاتجاه نفسه الذي خطَّته العائلة منذ البداية، ومحافظاً على تقاليدها العلمية، لكنه تميَّز بينهم بالقدرة الفائقة على الاستقصاء في الأدوية المفردة والمركبة، وبتجاربه الجديدة التي أهَّلته لمداواة أمراض لم يسبقه أحد من الأطباء في علاجها، وبابتكار أساليب علاجية غير مألوفة، وطرائق في تشخيص الأمراض ومعرفتها بفحص أحداق عيون المرضى وجسِّ نبض قلوبهم، من دون أن يسألهم عن أوجاعهم، وحينما ذاع صيته عيَّنه مؤسس دولة الموحدين في المغرب عبد المؤمن بن علي وزيراً وطبيباً له، وارتبط بعلاقات وثيقة مع علماء عصره، كالفيلسوف والطبيب الكبير ابن رشد الذي أثنى على تفوقه العلمي، واصفاً إياه بأنه أعظم طبيب بعد جالينوس، وألَّف له ابن زهر كتابه “التيسير في المداواة والتدبير”، الذي تُرجم إلى اللاتينية والعبرية، وأصبح منهجاً دراسياً في معاهد الطب في أوروبا زمناً طويلاً.

اعتمد ابن زهر في طريقته الطبية على المنهج العلاجي الغذائي، الذي يستعمل الغذاء في المعالجات قبل الأدوية، وهو المنهج الذي أفاض في وصفه وتحديد ملامحه في كتابه “الأغذية”، وكان خطوة متقدمة في مراحل تطور الفن العلاجي، ويُعدُّ أول من قدَّم وصفاً سريرياً لالتهاب الجلد، واكتشف جرثومة الجرب، وابتكر الحقنة الشرجية المغذية، واستعمل أنبوبة مجوفة من القصدير لتغذية المصابين بعسر البلع، وقدَّم وصفاً كاملاً لسرطان المعدة، ودرس أمراض الرئة، وأضاف أبحاثاً مهمة تتعلق بالأمراض الباطنية والجلدية وأمراض الحمى والرأس، وأشار بعملية شق الحجاب الحاجز، وأدخل في العلاج الملينات بدلاً من المسهلات الحادة، وكتب دراسات تتعلق بالكلى والبهاق والحصى.

يقول ابن زهر: “إن التجربة إما أن تصدِّق قولي حياً كنت أو ميتاً وإما أن تكذبه”، مؤكداً بذلك قيمة التجربة بوصفها معياراً صادقاً في البحث العلمي، كما تكشف سيرته احترامه للمرضى بصدق وإخلاص مطلقين طوال حياته، فهو لم يكن يتوانى في إسداء النصائح ووصف العلاج المناسب حتى لمن لا يملكون دفع تكاليفه، وكان يطلب من تلاميذه أداء قسم أبقراط، ويلزمهم بإجبار تلامذتهم على أدائه.

شكرا للتعليق على الموضوع