علماء فى التاريخ الاسلامى : ابن يونس المصري.. أعظم فلكيي عصره

يحفل تاريخنا العريق بأعلام بارزين أسهموا في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وكانوا وما زالوا نجوماً مشرقة في سماء العلم، نذروا أنفسهم لخدمة البشرية كافة، وقدَّموا جهوداً مشرِّفة في مجالات شتى، منها الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، وغيرها من العلوم الإنسانية، وأثَّرت جهودهم في النهضة الأوروبية تأثيراً اعترف به الأوروبيون أنفسهم.


وخلال شهر رمضان المبارك، تحيي “التلغراف” ذكرى هؤلاء العلماء، وترحل مع القارئ في عوالمهم الفسيحة، كاشفةً اللثام عن إنجازاتهم التي شكَّلت حلقة في مسيرة التطور، والتي قد اعترى بعضَها النسيان والظلم التاريخي أحياناً.
ما الزمن؟ حقيقة ماثلة في أذهاننا لا تعتريها شائبة شك، ومع ذلك فإن عقولنا، بكل ما أوتيت من قوة تأمُّل وحدَّة تفكير، تتوقف عاجزةً عن وضع تعريف واضح لماهية هذا المفهوم، أو تخيُّل صورة تفصيلية له في هذا الوجود، وإن كانت حواسُّنا لا تنفك تدرك أثره وتشعر بمروره وطوله وقصره، من خلال ما ينتاب الحياة من تغيرات تدل على سريانه.
قبل أن يشرح إسحاق نيوتن تصوُّره عن مفهوم الزمن المطلق، وقبل أن يضع ألبرت أينشتاين نظريته النسبية، كان هذا السؤال يراود عقل العالم المسلم علي بن عبد الرحمن بن يونس الصدفي المصري، المتوفى سنة 399هـ، ليفكِّر في حساب الزمن بواسطة آلة تعُدُّ إيقاع مروره بصورة منتظمة، فبادر إلى اختراع رقاص الساعة (البندول) والاستفادة منه في أرصاده، واكتشف العلاقة بين حركته وحركة الزمن، وأوضح في كتابه “الرقَّاص” طريقة عمله وكيفية تصنيعه وفوائده، وأثبت أن زمن ذبذبته يتناسب مع طوله وثقله والمادة المصنوع منها، سابقاً في ذلك الفنان ليوناردو دا فنشي بنحو أربعة قرون، وممهداً الطريق أمام العالم الإيطالي غاليلو غاليلي لاستنباط قانون البندول الرياضي.
وُلد ابن يونس في مصر، واختُلف في أصل نسبته (الصدفي)، فعزاها بعض الباحثين إلى بلدة صدفا في صعيد مصر، بينما أرجعها آخرون إلى الصدف، وهي قبيلة يمنية من بطون حمير هاجرت إلى مصر وعاشت فيها، في حين لا يُدرى تاريخ ميلاده على وجه التحقيق. ونشأ في عائلة ذات حسب ونسب عُرفت بالعلم، فأبوه عبد الرحمن بن يونس كان محدِّث مصر ومؤرخها وأحد علمائها المشهورين، وكذلك جده يونس بن عبد الأعلى كان تلميذاً للإمام الشافعي وعالماً بالنجوم، وفي هذا البيت الحافل بالجو العلمي حفظ ابن يونس القرآن الكريم، وحضر حلقات علماء الحديث والفقه والعربية في القاهرة، وأحب الأدب وقرض الشعر، وبعدها اتجه إلى دراسة الرياضيات والفلك والهندسة، مطلعاً على الأعمال التي ألَّفها العلماء الذين برعوا في تلك المجالات.
وبعدما نمت معارفه، أسهم ابن يونس في تطوير علم حساب المثلثات واستقلاله عن علم الفلك، فتمكَّن من حساب جيب الزاوية، وأوجد جداول للظلال وظلال التمام، وكان أول من اكتشف المعادلة الجزئية، وكان له دور بارز في تقدُّم علم اللوغريتمات، مستخدماً للمرة الأولى الأقواس في المعادلات الرياضية.
ووضع جداول فلكية في أربعة أجزاء، صحَّح فيها أغلاط من سبقوه، وصدَّرها بمقدمة عن علم الفلك وفوائده، ضمن كتابه المعروف باسم “الزيج الكبير الحاكمي”، الذي أهداه إلى الحاكم الفاطمي، وكان اعتماد أهل مصر عليه آنذاك، وتحدَّث عنه المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه “مدنية العرب”. وتُرجمت فصول منه إلى لغات عدة، وتوجد أجزاء منه في مكتبتي أكسفورد وباريس.
حظي ابن يونس بمكانة كبيرة لدى الفاطميين، فبنوا له عند جبل المقطم مرصداً فلكياً، جهَّزه بكل ما يلزم من الآلات وأدوات الرصد، وهناك اشتغل بالبحث والاستكشاف وملاحظة الظواهر السماوية، فاستطاع أن يرصد كسوف الشمس وخسوف القمر عام 368هـ، ونجح في إثبات تزايد حركة القمر، وحسَبَ ميل دائرة البروج بدقة عالية، مستحقاً وصف المؤرخ البلجيكي جورج سارتون له بأنه أعظم فلكيي عصره.

شكرا للتعليق على الموضوع