لن أنساه “بين منفوحة وغبيرة.. كان هناك تعليم”

بقلم :   مبارك الرباح 

المعلمون الذين مرّوا في حياتنا كثيرون، كالطلبة الذين زاملناهم على مدى كل مراحل التعليم، تنبذ الذاكرة معظمهم حين لا ترتبط هذه الحياة التعليمية بما يلفت الذاكرة ويحفر بها معالم لا تستحق النسيان.

صنّاجة العرب.. صنّاجة المدرسة

درست وتعلمت في المرحلة الابتدائية بمدرسة الأعشى الابتدائية بالرياض ما بين عامي 1385هـ و1391هـ، كانت في قرية منفوحة القديمة الواقعة جنوب مدينة الرياض على ضفاف وداي حنيفة، كانت قريةً زراعية تحيط بها البساتين من جهتي الغرب والجنوب، وتحيط بها تلال ليست مرتفعة من الشمال تفصلها عن مدينة الرياض، كانت منفوحة القديمة مسيجة بأسوار طينية عالية تحيط بها من كل الجهات، وكان معظمها إذ ذاك لا يزال باقيًا، ليس لها إلا مدخلان متقابلان من جهة الشمال والجنوب، يوصل بينهما الشارع الرئيس الذي يفصل القرية إلى جزأين شرقي وغربي، كانت وقتها تمثل صورة القرية النجدية البِكْر، إذ تخلو من أي مبنىً خرساني عدا المسجد الجامع، كما كانت تخلو من الأسفلت والكهرباء، أما شوارعها ليلاً فيوجد بها رجال العسّة لحفظ الأمن.

منفوحة هي بلدة الأعشى، صناجة العرب، ذلك الشاعر الجاهلي العملاق، ومازلت أتذكر في طفولتنا عندما كنا ندور حول أحد بقايا القصور القديمة شمالي القرية الذي ينسب للشاعر الأعشى.. كان ارتباط اسم المدرسة بالمكان شيئًا يثير الاعتزاز كلما مرّ بنا شيء من ذكر الأعشى الشاعر، فنشعر بالفرح وكأنما هو أحد أجدادنا.

من أبرز المعلمين في تلك المرحلة الأستاذ أحمد نصّار (فلسطيني الجنسية)، معلم اللغة العربية للصفوف الثلاثة الأخيرة، ورائد الصفّ السادس دائمًا، كان هو من يضع البصمة الأخيرة على طلاب المدرسة قبل أن ينتقلوا للمرحلة المتوسطة، كان أحمد نصّار مثقفًا فلسطينيًا حافظًا للشعر، ومهتمًا بالأدب العربي، ويلح على صدور صحيفة الصف السادس الحائطية في موعدها كل شهر، التي اختار لهم اسمًا هو (وحي القلم)، ووضع لها شعارًا معبرًا هو (الريشة والمحبرة)، إذ كان يشترط أن تكون موادها بعيدةً كل البعد من المنهج الدراسي، بحيث يثير حماسة الطلبة في الاستعارة من مكتبة المدرسة.

 لقد علّمنا أحمد نصّار في سنٍّ باكرة كيف نستعير كتبًا من مكتبة المدرسة، وكيف نقتبس منها ما يناسب وحي القلم ليتم نشره فيها.

شغف المعمل

التحقت بمتوسطة «ابن الجوزي» التي تقع في حي البطحاء مقابل مبنى أمانة مدينة الرياض وتجاور المدرسة التذكارية الابتدائية ومتوسطة حطين، وكانت حينها مدرسةً حديثة التأسيس، فكنا نمثل الدفعة الأولى منها، وأبرز المعلمين الذين رسموا ذكرى جميلة في ذاكرتي هو الأستاذ يوسف حسّونة، مصري الجنسية ومعلم مادة العلوم، كان محبّا لاختصاصه ومادته بدرجة كبيرة جدًا، وكان يلحّ على ألا ندرس مادته إلا في المعمل رغم قلّة الإمكانات آنذاك. كان قادرًا وبسهولة تامة على إيصال المعلومة، وكان يمضي وقتًا كثيرًا في شرح المعادلات الكيميائية لطلاب صغار مبتدئين، ويحرص كل الحرص على أن يشاركه الطلبة في وزن المعادلات الكيميائية لتكون متعادلة الأطراف، إضافة إلى أنه كان يحرص على حفظنا لكل القوانين الفيزيائية المقررة وصياغتها بطريقة علمية دون الحاجة لحفظها نصًّا.. يوسف حسّونة، درسّنا مادة العلوم لمدة ثلاث سنوات، كنا نحبه ونحب مادته بدرجة قد تفوق حبنا لمادة الرياضة أو مادة الـتربية الفنية.

تغيير مسار

 التحقت بمدرسة الملك عبدالعزيز بالرياض في المرحلة الثانوية، ودرست بها ما بين عامي 1396هـ و1398هـ، وتقع في نهاية شارع البطحاء من جهة الجنوب، في الحي المتعارف عليه باسم (حي غبيرة)، وكانت وقتها حديثة الطراز، وذات مبانٍ وساحات واسعة، فعلاً أشعرتنا حينها بأننا كنا نقترب من عالم المرحلة الجامعية.. كنت أخطط أن أدخل القسم العلمي بعد اجتياز السنة الأولى الثانوية طبقًا لما غرسه فينا أستاذنا يوسف حسّونة في المرحلة المتوسطة، لكن كان للأستاذ حمد العفيصان رأي آخر في توجهنا المستقبلي، حين أعاد لنا اهتمامات أحمد نصار.

الأستاذ حمد العفيصان هو معلم اللغة العربية في الصف الأول الثانوي، ما زلت أحتفظ حتى اللحظة بكتاب أهداه إلي حين قدمت بحثًا له ضمن مادة المكتبة بعنوان (العبادة في الإسلام)، العفيصان هو معلم سعودي كان يكتب بهدوء، ويقرأ بهدوء، ويتحدث بهدوء، وحتى حينما يمشي في أروقة المدرسة، كان يمشي بهدوء أيضًا، كما كان كثيرًا ما يحول مواده إلى حلقات نقاش حول مواضيع أدبية متعددة ومختلفة، بما يثير في رؤوسنا الكثير من الأسئلة التي كان يتوجب علينا بعدها أن نبحث لها عن إجابات في مكتبة المدرسة.

هو في الواقع من حوّل مسار تخصصي من العلمي للأدبي، على رغم محاولات الأستاذ سعد الفوزان (وكيل المدرسة آنذاك، وتخصصه في علم الأحياء) نقلي للقسم العلمي بعد مرور أكثر من شهرين من دراستي بالقسم الأدبي في السنة الثانية، كانت محاولاته بتوصية من مدرس الكيمياء في السنة الأولى الثانوية الأستاذ محمد الماجد..

لقد شعرت بامتنان كبير جدًا للأستاذ سعد الفوزان على محاولته تلك التي كنت أعرف أنها تصبّ في مصلحتي، وقد بحثت عن عنوانه قبل سنوات، فوجدته يعمل مديرًا للتعليم في القويعية، اتصلت به، وشكرته كثيرًا عن موقفه ذاك. كل الشكر لهؤلاء الأساتذة، وغيرهم الكثيرون الذين لا يتسع المقام لذكرهم، دعواتنا بالرحمة لمن توفي منهم، وبطول العمر والصحة والعافية للأحياء.

المعرفة

شكرا للتعليق على الموضوع