المجتمعات المنعزلة التي تعيش على جزر نهر التيمز في لندن

تعد جزيرة إيل باي واحدة من بين نحو 180 جزيرة صغيرة وسط نهر التيمز، شكّلها المجرى المتعرج للنهر الذي يمتد على مسافة 184 ميلا من تلال كوتسولد إلى بحر الشمال.

عندما وصلت إلى جسر بي-غرين للمشاة شعرت أنه سيقودني إلى مكان مجهول. فحين وقفت على الممر المجاور للنهر رأيت الجسر يرتفع ثم يهبط ويتلاشى وسط الشجيرات الكثيفة، التي تشكل سياجا يحيط بأغرب المجتمعات المنعزلة في لندن.

ونُحتت في مجرى نهر التيمز جزر صغيرة، مثل جزيرة تشيزيك، التي أصبحت محمية طبيعية كثيفة الأشجار تعيش فيها طيور البلشون والأوز الكندي. ويغمر النهر في وقت المد، هذه الجزيرة الصغيرة بأكملها، ولا ترى منها سوى بضعة أغصان متفرقة.

وتشكلت جزيرة إيل باي، بالقرب من تويكنهام، جنوب غرب لندن، عندما غيّر نهر التيمز مجراه وشق مسارا موازيا لمساره الأصلي، وترتب على ذلك انفصال الجزيرة عن اليابسة.

ومنذ القرن السابع عشر، بحسب خريطة تعود إلى عام 1635، كانت هذه الجزيرة، عندما كانت تضم مركزا للبولينغ، ملاذا للباحثين عن المتع والملذات، وعشاق الموسيقى ومتعددي العلاقات العاطفية.

وقبل إقامة جسر المشاة في عام 1957، كانت القوارب هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الجزيرة، ولهذا باتت، بحكم عزلتها، مكانا مثاليا لإقامة علاقات غرامية عابرة خارج إطار الزواج.

ويحكي سكان الجزيرة أن الرجال الأثرياء كانوا يدفعون أموالا لأصحاب القوارب ليمنعوا زوجاتهم من الوصول إليهم حتى لا يفسدن عليهم خلوتهم بعشيقاتهم.

واستمدت جزيرة إيل باي اسمها من الفطائر المحشوة بلحم ثعابين السمك “إيل باي” التي كانت تباع في الفندق الذي شُيد على الجزيرة في القرن التاسع عشر. وكانت ثعابين السمك توجد بكثرة في هذا الجزء من نهر التيمز، لكن أعدادها تناقصت ونادرا ما تجدها الآن.

وبالرغم من أن الفندق احترق في عام 1971 في ظروف غامضة، فإن سكان الجزيرة لا يزالون يتحدثون باعتزاز عن الحفلات الترفيهية التي استضافها الفندق على مدار عقود، من الرقص الثنائي والجماعي، وموسيقى الجاز الصاخبة، إلى الحفلات التي أحيتها فرقة رولينغ ستونز، ورود ستيوارت في بداية ظهورهما.

وكان المخترع الإنجليزي تريفور بايليس، كثير التردد على الفندق في مرحلة المراهقة، وافتتن “بالفتيات الجميلات وموسيقى الجاز″، وترك من أجلها منزله في كيلبورن، بلندن. وفي عام 1971 بنى منزلا جديدا في هذه الجزيرة.

وبعد أن كانت الجزيرة لا تضم سوى “بضعة أكواخ”، بُني عليها نحو 50 منزلا، يسكنها عدد من قدامى جماعة الهيبيز، وهي حركة شبابية معارضة للحروب والأعراف والقيود الاجتماعية ظهرت في الستينيات، وبعض الأُسر من الشباب، وأشخاص “ذوي طباع وأفكار غير تقليدية”.

ويقول بايليس: “كنا ولا نزال نعيش هنا كعائلة واحدة”.

وقادني الجسر إلى ممشى ضيق، تتوسطه لافتة كُتب عليها “جزيرة خاصة”، ومررت بأكواخ متداعية حتى وصلت إلى ورشة لبناء القوارب وإصلاحها، تحيط بها مجموعة من مشاغل فنية متهالكة.

وتزدحم الممرات بالقدور، والطاولات المصنوعة من الحديد المطروق، وزجاجات الشمبانيا الفارغة التي وضعت فيها الشموع. ورأيت قفصا معلقا تتدلى منه ساقي هيكل عظمي، وتماثيل لعرض الملابس كانت رؤوسها من أصص النباتات.

هذا المنظر المبتكر من تصميم بستاني الجزيرة، حسبما ذكرت ليي كامبل، رسامة المناظر الطبيعية من نيوزيلندا، حين كنا نجلس معا في السقيفة المصنوعة من الصفيح وسط الغابة الخضراء التي تعمل فيها. وقد استأجرت كامبل هذا المشغل منذ 17 عاما، ولكنها تعيش في “البر الرئيسي” على حد قولها.

وتقول كامبل: “يأتي إلى هنا بين الحين والآخر بعض أفراد جماعة الهيبيز من كبار السن يسألون عن الفندق، بحثا عن الحفلات”.

وتهوى كامبل هذه الجزيرة لأنها توفر لها فضاء هادئا للرسم، كما تحب السير فوق الجسر كل مساء نحو “اليابسة”.

ويرى كل من يعيش على الجزيرة أو يعمل عليها أو يزورها، أنها تأسر الألباب. فهذه الجزيرة، كغيرها من الجزر المنتشرة في نهر التيمز، تحمل بين جنباتها الكثير من الذكريات، وكانت مسرحا لأحداث عديدة.

وفي عام 2009، قبل أن تصبح جزيرة “ريفنز” الصغيرة التي تتخذ شكل سفينة، جزيرة خاصة يستأجرها الناس لإقامة حفلات الأفراح الفخمة، استولى عليها 12 شخصا بوضع اليد لعدة أشهر، بدعوى أنها يجب أن تكون أرض مشاع.

وزعموا أن الملك جون، الذي تولى عرش انجلترا في العصور الوسطى، وقّع وثائق على هذه الجزيرة مهدت لإبرام وثيقة الماغنا كارتا الشهيرة.

وفي جزيرة “ماغنا كارتا”، غرب جزيرة “ريفنز” يقال إن الملك ختم الوثيقة التي استمدت منها الجزيرة اسمها.

أما جزيرة أوليفر، بالقرب من منطقة كيو، فقد سميت باسم أوليفر كرومويل بعد أن زعم البعض أنه أوى إلى هذه الجزيرة وشق نفقا لربطها بالحانة على الضفة المقابلة، إلا أن هذه القصة كذّبها كثيرون، ولم يكتشف أي أثر للنفق.

وفي جزيرة تاغز المجاورة، تنمو حدائق الأزهار واللافندر والخيزران على جانبي طريق حلقي وتحيط بها منازل عائمة. وفي خمسينيات القرن التاسع عشر، استأجر توماس جورج تاغ، صانع القوارب، جزيرة تاغز، وذاع صيت سفنه ذات الألوان اللافتة، والنقوش المميزة والمظلات المخططة. وتقاطر على الجزيرة الفنانون والكتّاب والأثرياء.

وكان فريد ويستكوت العازف المتجول يتوق للعيش على هذه الجزيرة التي تتخذ شكل قطرة الماء. وأقام مسرحا لعروض السيرك، بالتعاون مع مجموعة من الممثلين والعازفين المغمورين آنذاك، مثل تشارلي شابلن وماكس ميلر.

وفي عام 1903، انتقل ويستكوت إلى جزيرة تاغز، واشترى أكبر القوارب المحيطة بالجزيرة وأفخمها.

وهذا الإرث، والتاريخ الزاخر بالأحداث التي شهدتها الجزر التي يبلغ عددها 180 جزيرة، منها 30 جزيرة مأهولة، جديران بالحفظ والنشر.

ولهذا تعكف ميشيل ويتباي، التي تستأجر منزلا عائما يرسو في جزيرة إيل باي، على توثيق ذلك التاريخ.

وتجمع ويتباي الحكايات التي يتناقها سكان جزيرة إيل باي لتضيفها إلى متحفها “إيل باي”، الذي سيدشن مطلع 2018.

وتقول ويتباي: “هذه الجزيرة لم تكن تضم في البداية سوى أكواخ صغيرة، ويقال إن رجال الأعمال الأثرياء كانوا يقضون عطلات نهاية الأسبوع فيها مع عشيقاتهم”.

ويرى سكان إيل باي، الذين تتراوح أعمارهم من 17 إلى 70 عاما، أن القاسم المشترك بينهم هو “روح المغامرة”.

وتقول ويتباي: “هذه الحياة لا تناسب الجميع، أحيانا تضطر أن تسير في الماء لتصل إلى منزلك، عندما يغمر المد أجزاء من الجسر. ولكن هذا العالم مليء بالحيوية والمغامرات، فإذا لم يغادر الساكن هذه الجزيرة في غضون عام، سيمضي حياته عليها”.

ويقول تريفور بيليس، مخترع جهاز راديو يستمد طاقته عن طريق تدوير ذراع يدويا، إنه لن يغادر الجزيرة في حياته. ويعيش بايليس الأعزب، الذي يبلغ من العمر الأن 80 عاما، في منزل بعيد عن الأنظار على طريق غير معبد متفرع من الطريق الرئيسي.

وتضج ورشة بيليس بالأدوات والمسامير وعجلات القيادة المعلقة على الحائط وبعض النماذج الأولية من الراديو المزود بذراع التدوير.

يقول بايليس، وهو يتقدمني إلى غرفة المعيشة بجوار بركة السباحة: “لقد بنيت منزل أحلامي”.

وتغطى جدران منزله صور لمجموعة من صديقاته وملصقات كبيرة الحجم للممثلة الأمريكية أودري هيبورن، وصورة له بصحبة نيلسون مانديلا، وهو يحمل بفخر جهاز الراديو الذي ساعد في توعية الناس بأسباب انتشار فيروس نقص المناعة البشرية ومتلازمة نقص المناعة المكتسب (الأيدز) في أفريقيا.

وأصبح بعدها نيسلون مانديلا “صديقا مقربا” لبايليس، على حد قوله.

وتنوء أرفف الكتب بحمل الموسوعات الثقيلة، وبنيت على الجدار حوامل لزجاجات الخمر من الأجزاء غير المستغلة من المواسير. ومن خلف الأبواب المصنوعة من الزجاج، بدت لنا شرفة تطل على النهر، وأرضيتها مغطاة بالعشب الأخضر.

وينام بايليس على فراشه المحاط بالكتب وتعلوه صورة بالحجم الكبير لأودري هيبورن.

وسرد لي بايليس تاريخه الحافل بالإنجازات، إذ حصل على وسام الإمبراطورية البريطانية بدرجة ضابط تقديرا لاختراعاته، وبدأ حياته كممثل بديل لبيتر كوك ودودلي مور، وكان عضوا في الفريق القومي البريطاني للسباحة في سن 15.

وبالرغم من أن الجزيرة تخلو من الطرق والشوارع، فإن بايليس صمم سيارة وركّب أجزاءها بنفسه دون الاستعانة بآلات.

وقال لي بيليس مشيرا إلى سيارته الحمراء التي لا تتحرك من أمام منزله: “هذه السيارة لم تقطع إلا خمسة أميال فقط”.

وبينما كنا نجلس في شرفته، رأيت على الضفة المقابلة، شخصا يركض خلف الأشجار في نشاط، ومرّ أمامنا رجل يجدف بمفرده في زورق صغير.

وتتوقف أمام الجزيرة بين الحين والأخر قوارب كبيرة تحمل على متنها سياحا، ويشير المرشدون إلى منزل بايليس كمعلم بارز في الجزيرة.

وسمعت نعيق غراب يثب بين الأغصان، وقال بايليس مازحا: “هذا جاري”، واتكأ على كرسيه وأخذ يدخن غليونه، وقد بدت على وجهه ابتسامة الرضا والقناعة.

وقال: “لقد كنت دوما محظوظا، هذه هي الحياة المثالية، ولا ينقصني أي شيء”، وفق ما نقلت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.

شكرا للتعليق على الموضوع