هل تنتصر البشرية علي البلاستيك ؟!
تقارير – التلغراف : تصاعد في العقود الأخيرة خطر التلوث البلاستيكي وما يترتب عليه من أضرارٍ نتيجةً لاستهلاكنا المفرط، خاصةً مع الإنتاج المتزايد لكميّاتٍ ضخمةٍ من النفايات المتراكمة التي يصعب التخلص، ولا يقتصر خطر التلوث البلاستيكي على المستهلكين البشر وحدهم، بل يمتد إلى الكائنات البحرية أيضاً التي تدفع ثمن استهلاك الانسان غير المسؤول للبلاستيك. فهل يُعقل أن يتوقف تقدم العلوم عند حد تصنيع البلاستيك فحسب دون البحث عن حلولٍ لتلوثه وتراكمه؟ فالعلم حركةٌ مستمرةٌ تسعى لجعل حياتنا أفضل، ونجد الأبحاث العلمية اليوم تتسابق في سبيل التوصّل إلى أنواعٍ بديلةٍ من البلاستيك تتحلل ذاتياً أو إيجاد حلولٍ علميةٍ تساهم في التخلص من النفايات المتراكمة بطرقٍ آمنةٍ نسبياً، كما تتظافر جهود المنظمات والأفراد في نشر التوعية للاستخدام المقنن، وتعزيز مبادرات إعادة التدوير.
أثمرت تلك الجهود في بعض الدول التي تبنت قوانين صارمةً للحد من تفاقم التلوث البلاستيكي بوضع السياسات الوطنية، إذ وقعت أكثر من 200 دولةٍ على قرار الأمم المتحدة للقضاء على التلوث الناجم عن إلقاء المخلفات البلاستيكية في البحار والمحيطات، وأعلنت المملكة المتحدة ضمن الأسابيع الأولى من هذا العام عن خطةٍ بيئيةٍ مدتها 25 عاماً مدعومةً من الحكومة وتجمع بين الشركات وأصحاب المصلحة لتنفيذ حلولٍ اقتصاديةٍ للنفايات البلاستيكية، بينما قدمت فرنسا التزاماً طموحاً بإعادة تدوير 100٪ من جميع أنواع البلاستيك بحلول عام 2025مـ وفرضت حظراً على استخدام أدوات المائدة البلاستيكية، وذلك ضمن خطواتٍ عمليةٍ تشمل زيادة القدرة التنافسية والابتكار، وتوليد وظائف جديدةٍ.
تُعدّ كينيا أكثر الدول صرامةً في التصدي للتلوث البلاستيكي حيث تصل عقوبة إنتاج، بيع، أو حتى استخدام الأكياس البلاستيكية إلى السجن لمدةٍ تصل إلى أربع سنوات أو دفع غرامةٍ تصل إلى 40 ألف دولار، وهي من الدول التي حظرت استخدام الأكياس البلاستيكية إلى جانب الصين وفرنسا.
كما تولي رؤية المملكة العربية السعودية 2030 أهميةً قصوى للحفاظ على البيئة وتأسيس مشاريعٍ متكاملةٍ لإدارة المخلفات وإعادة تدوير النفايات والحدّ من التلوث بجميع أشكاله، حيث أعلن صندوق الاستثمارات العامة عن خطته لتأسيس “الشركة السعودية لإعادة التدوير”، وهي شركةُ جديدةُ تهدف إلى إدارة أنشطة الصندوق في قطاع إدارة التدوير في السعودية، سعياً لزيادة معدلات التحويل وعمليات إعادة التدوير التي لا تتجاوز 10% حالياً. وسنستعرض في هذا المقال أبرز التقدمات في مجال الأبحاث العلمية، وتكامل المبادرات المجتمعية للحفاظ على البيئة، وكيف يساهم قطاع الأعمال الصغيرة في مكافحة التلوث البلاستيكي.
الأبحاث العلمية: بصيص أملٍ
1- البكتيريا: اكتشف الباحثون في الآونة الأخيرة أنّ عدداً من أنواع اليرقات التي تأكل بلاستيك البولي إيثيلين تحتوي في أمعاءها على مجموعةٍ متنوعةٍ من البكتيريا التي تحلل البلاستيك، وأفادوا بأن مزج البلاستيك القديم مع خليطٍ مماثلٍ من البكتيريا يمكنه أن يسرّع من عملية التحلل، كما أفادت الباحثة المشاركة في الدراسة من جامعة تكساس للتقنية في مدينة لوبوك وهي أنيشا نافليكار بأن بعض هذه البكتيريا تستوطن المحيطات وتساعد في تحلل المواد البلاستيكية بالفعل.
2- إنزيمٌ هاضمٌ البلاستيك: في تقدمٍ علميٍ آخر، ساهم علماءٌ من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في تصميم إنزيمٍ يتناول البلاستيك، ما يساعد في مكافحة التلوث المتراكم قديماً ومستقبلاً. ولهذا الإنزيم القدرة على هضم البولي إيثيلين تيريفثاليت، وهو نوعٌ من البلاستيك الذي يُستخدم الآن في ملايين الأطنان من القوارير البلاستيكية ويبقى لمئات السنوات في البيئة، ويلوّث حالياً مساحاتٍ كبيرةٍ من الأراضي والبحار حول العالم.
يصف خبير الكيمياء بجامعة ملبورن أوليفر جونز هذه الانزيمات بأنها غير سامةٍ، قابلةٌ للتحلل الحيوي، ويُمكن إنتاجها باستخدام كمياتٍ كبيرةٍ من الكائنات الدقيقة، ولكن العمل عليها الآن لا زال في مراحله الأولى، وتتمثل فكرة عمل الإنزيمات في تطبيقها صناعياً لتحويل المواد البلاستيكية الأكثر استخداماً إلى وحدات بنائه الأولية، مما يُسهّل من عملية إعادة تدويره باستدامة، وبالتالي ستمثل عاملاً هاماً في حل مشكلة النفايات المتزايدة في البيئة.
3- البلاستيك الحيوي: نجح علماءٌ من مركز تقنيات الكيمياء المستدامة في جامعة باث في صنع بلاستيكٍ قابلٍ للتحلل الحيوي خلافاً للبلاستيك متعدد الكربونات المصنوع في جوهره من النفط، إذ صُنع هذا البلاستيك بإضافة ثاني أكسيد الكربون إلى سكرٍ طبيعي يسمى الثيميدين منقوص الأكسجين تحت ضغطٍ منخفضٍ وفي درجة حرارة الغرفة، ودون الحاجة إلى استخدام موادٍ كيميائيةٍ ضارّةٍ.
لم تكن هذه المحاولة الأولى لصنع بلاستيكٍ قادرٍ على التحلل الحيوي، إلا أن ما يُميّز هذا الإنجاز العلمي إمكانية تحلل هذا النوع من البلاستيك بمساعدة إنزيمات البكتيريا الموجودة في التربة، كما أن عملية التحلل هذه لا تتطلب درجات حرارةٍ عاليةٍ على عكس أنواع البلاستيك المُصنعة في المحاولات السابقة، حيث يتحلل معظمها عند درجات حرارةٍ تقارب الخمسين درجةٍ مئويةٍ، مما دعا لوصفها من قبل رئيسة العلماء في برنامج الأمم المتحدة للبيئة بأنها “حلٌ زائف”.
المجتمع يساهم
أطلقت جهاتٌ مختلفةٌ وعددٌ من أصحاب القرار سواءً في القطاع الاقتصادي أو على نطاق العمل التطوعي، ويتجلى في هذه المبادرات انتشار الوعي المجتمعي واستشعار المسؤولية من قبل رجال الأعمال والدول تجاه البيئة. ومن تلك المبادرات مبادرة اقتصاد البلاستيك الجديد، وهي طريقةٌ فريدةٌ في التفكير تستند على مبادئ الاقتصاد الدائري بحيث لا يصبح البلاستيك نفاياتٍ أبداً، وتقوم على تشجيع مصانع البلاستيك لتصميم منتجاتٍ بلاستيكيةٍ قابلةٍ لإعادة الاستخدام، أو توظيف الأبحاث العلمية في تغيير طبيعة البلاستيك كلياً وتطوير مواد بلاستيكية متجددة المصدر وتقوم على أساسٍ حيوي بدلاً عن البتروكيماويات، كما تهدف هذه المبادرات إلى حفظ الموارد عبر تحسين البنية التحتية للحد من تسرّب البلاستيك إلى السواحل والمحيطات.
تهدف الأعمال غير الربحية إلى تسليط الضوء على الأمل والتغيير الذي يُمكن للفرد القيام به، ورفع التوعية المجتمعية وترك الأثر الهادف في البيئة، وذلك إيماناً بأن المشكلة التي تأتي من صنع الانسان فإنه بيده حلها أيضاً، وهو الشعار الذي يتخذه مشروع كايسي ومعهد سكريبس لعلوم المحيطات، وهو مشروعٌ يضم فريقاً من عشاق المحيطات، العلماء، الرياضيين، والبيئيين الذين يجمعهم هدف الوصول إلى طرقٍ لتجميع البيانات عن النفايات البلاستيكية في المحيط ومعالجتها وإعادة تدويرها لتحويلها الى وقود.
أطلق المركز الدولي للحفاظ على السواحل أكبر برنامجٍ تطوعي لجمع البيانات عن البيئة البحرية في عام 1986مـ، ويُعقد يوم “التنظيف الساحلي الدولي” ثالث أيام السبت من كل سبتمبر ليعمل فيه المتطوعون على إزالة المخلفات من السواحل والممرات المائية وتحت الماء وعلى الأراضي أيضاً، كما صممت شركة المراكب الإماراتية قوارب ذاتية القيادة تقوم بتنظيف السواحل عبر شبكة متصلة بالقارب تُجمع فيها المخلفات، وتُقام فعالياتٌ وجهودٌ مماثلة في مختلف المدن الساحلية في العالم لتنظيف الشواطئ، وهي تساهم بشكلٍ فعّالٍ في التخفيف من آثار تلك المخلفات، إلا أنها لا تساهم في حل جذور المشكلة.
الابتكار والشركات الناشئة
أدى الاهتمام المتمثل في إطلاق المبادرات والمسابقات إلى تحفيز بيئة الابتكار الهادف لإيجاد الحلول البيئية والاقتصادية للتصدي للتلوث البلاستيكي، وساهمت في إلهام وتحدي العلماء، المصممين، وغيرهم من المبتكرين للتفكير خارج الصندوق فيما يتعلق باستخدامنا للبلاستيك، كيفية تصنيعه، وإعادة استخدامه، لا سيما وأن المنتجات اليومية الأكثر طلباً وتطلباً للجانب الفني لا يتم إعادة تدويرها حالياً، وينتهي بها الحال في مكبات النفايات بعد استخدامها لمرةٍ واحدةٍ فقط. وكما يُقال “الحاجة أم الاختراع”، وهو ما أبرز عدداً من الابتكارات التي تم استثمارها كأساس لعددٍ من الشركات الناشئة في مختلف بلدان العالم.
جاءت فكرة تطبيق ميوا في جمهورية التشيك كمبادرةٍ لتقليل استهلاك أكياس البقالة البلاستيكية، وهو تطبيقٌ يُتيح للمتسوقين طلب الكميّات المحددة التي يحتاجونها من البقالة، ثم تُسلم بعد ذلك في عبواتٍ قابلةٍ لإعادة الاستخدام إلى أقرب متجر أو إلى منازلهم، مصنع هاي سكاي في المملكة العربية السعودية أكياساً قماشيةً قابلةً للتحلل وإعادة الاستخدام. بينما تقوم الشركة الإندونيسية الناشئة المعروفة بـ إيفويير بتصنيع أغلفةٍ وأكياس طعامٍ من مادةٍ تعتمد على الأعشاب البحرية التي يُمكن إذابتها وتذويبها، كما تُقدم شركة دلتا من المملكة المتحدة تقنيةً تسمح للمطاعم بصنع وتقديم الصلصات في أكياسٍ قابلة للأكل.
ماذا عن كوب قهوتك اليومية؟ وجدت الأبحاث أن ما يقرب من 100 مليار كوب يُباع سنوياً ولا يتم تدوير أيّ منها أو إعادة استخدامها، لذلك بادرت شركة كب-كلوب في تقديم خدمة الاشتراك في كوبٍ يمكن إعادة استخدامه، حيث يُمكن إسقاط الأكواب التي يمكن إعادة استخدامها في أي متجر مشاركٍ ضمن المبادرة، بينما عملت شركة تريو-كب في الولايات المتحدة على تصنيع فنجانٍ ورقيٍ بطريقةٍ شبيهةٍ بالأوريجامي يُستغنى فيه عن الغطاء البلاستيكي، كما استخدموا مواداً بديلةً قابلةً لإعادة التدوير بنسبة 100%.
أما في مجال الابتكارات العلمية لطلبة الجامعات، طبق فريق من جامعة بيتسبرغ الهندسة النانوية في محاكاةٍ للطبيعة باستخدام بضع وحداتٍ جزيئية للحصول على مجموعةٍ كبيرةٍ من المواد، وذلك لتصنيع مادةٍ قابلةٍ لإعادة التدوير لتكون بديلةً للعبوات متعددة الطبقات التي لا يمكن إعادة تدويرها. بينما اقترحت مجموعة تقنيات أروناكس الإسبانية إضافة قطعٍ مغناطيسية للعبوات للحصول على عزلٍ أفضل للهواء والرطوبة، مما يجعله مناسبًا لحماية المنتجات الحساسة مثل القهوة والأدوية مع بقاءها قابلةً لإعادة التدوير.
تأتي هذه الابتكارات في ظل تبنى أسس الاقتصاد الدائري، ويتطلب تحقيقها تعاوناً فعلياً بين القطاعات المختلفة كالصناعة والحكومات، المصممين، والشركات الناشئة، وتعتمد تلك الابتكارات في مُجملها على الاستثمار لتوسيع نطاق البدائل وتوفير البنية التحتية اللازمة للتجميع والفرز لدعمها. إنّ خطر النفايات البلاستيكية يتطلب سعياً جادّاً على كافة الأصعدة، ومُساهمة جميع الأفراد والقطاعات، ومن المؤمل أن تساهم البيانات الضخمة والتقنيات المتقدمة في مجابهة الخطر وتسريع الوصول إلى اقتصادٍ دائري يُبنى على حُسن استخدام الموارد وحماية كوكب الأرض.