رؤية العالم في المتوالية السردية ( وَسَن ) للكاتبة هبة بنداري
إيمان الحملي – التلغراف
علق الناقد الأدبى الدكتور رمضان الحضري على المتوالية القصصية السردية ( وَسَن ) للكاتبة هبة بنداري قائلا :
إن الأفعال التي أقوم بها ويتألم منها غيري ويصفها بأنها غريبة ، لو كانت في صالحه هو لشعر بالسعادة وأُعجب بها وأثنى عليها ، ولكنني على يقين تام أن كل شيء في الحياة مهم للغاية ، حتى الشعور بالوجع في عضو من أعضاء الجسم ينبه إلى ضرورة العلاج ، فاللصوص ينبهون الناس للحرص ، والأغبياء ينبهون الناس لضرورة الفهم والوعي ، والجاهلون ينبهون العلماء لأهمية العلوم ، حتى الحشرات الضارة تنبه الناس إلى ضرورة الوقاية من أخطارها .
أنا مؤمن جدا بأن الكاتب الحقيقي جراح ماهر ، يعرف أين يضع مشرطه ، ونص الكاتب هو المريض الذي لابد أن يكون في غرفة العناية المركزة حتى تمام المعالجة ، ثم يخرج لأهله وقرائه ، كما أؤمن بأن الناقد هو المساعد الأول للجراح ، الذي يشرح لأهل المريض كيف تم العلاج ؟ ! وكيف نحافظ على هذا المنتج ليظل عضوا فاعلا في المجتمع ، حيث إن تصور البعض للنص الأدبي بأنه مجموعة متراصة من المفردات _ التي تنتج كلاما أو حديثا في متوالية ، تتبعها متواليات أخرى _ إنما هو تصور يجعل النص دون قيمة اجتماعية ، على الرغم أن دعوات الأنبياء والرسل لم تبق منها سوى الكتب التي تقدم للناس القيمة الاجتماعية التي تحافظ على توازن المجتمعات البشرية صحيحة .
ولذا لم يصف الله كتابه بأنه كلام أبدا ، لكنه يصفه بالهدى والكتاب والذكر والبينات والشفاء وغيرها من الصفات الدالة على الوظيفة والماهية ، ولذلك لم ينتبه النقاد أن الحديث عن القرآن جاء حديثا ماديا محسوسا ، ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) سورة الإسراء ( الآية 88 ) .
فعلينا أن نلاحظ ( أن يأتوا _ لا يأتون ) ، فالفعل ( أتى ) بمعنى ( جلب وأحضر وأبدع وأغنى وغيرها ) وليس من معناها القراءة ولا الكتابة ولا الكلام ، فالقرآن هدى وذكر ورحمة وشفاء وبينات وحُكْمُ مابين الناس ، أما اللغة فهي وسيلة جاءت بكل هذه الوظائف والماهيات .
وحينما فرّق البنيويون بين اللغة والكلام على منهج البنيوية اللسانية الذي جاء به دوسوسير وجاكبسون ، فرقوا بين المفردة في المعجم ، وبين اكتسابها لمقومات جديدة تجعلها كلمة داخل نص ، فالمفردة في المعجم أجير لكل من يستطيع أن يدفع أجره ، ويتمكن من استعماله ، أو مادة خام لكل من يستطيع أن يكسبها تشكيلا جديدا بموهبة وصناعة حقيقية ، تؤثر في المجتمع .
وجاء تطور البنيوية من خلال ربط النص بالمجتمع وبالعالم ، حينما ظهرت البنيوية التوليدية أو التكوينية على يد الفيلسوف الفرنسي لوسيان جولدمان والذي وضّح مصطلح ( رؤية العالم ) ، على الرغم أن هذا المصطلح كان كثير الاستخدام قبل لوسيان جولدمان ولوكاتش إلا أن استخدامه السابق لم يكن واضحا أو يقدم أفكارا جلية ومجتمعية يمكنها أن تفيد الناس .
حيث قدمت البنيوية التكوينية تفسيرا ماديا ومجتمعيا للفكر والثقافة والأدب الروائي والقصصي ، وفي تفسيرها للأدب القصصي تتكامل مع البنيوية السردية التي أسسها بقوة رولان بارت وجيرار جنيت وكلود بريمون .
دوما يجرجرني التنظير بعيدا عن النص الذي أبغي التطبيق عليه ، لربما هو قصد مني لاستجلاء النص أمام القاريء ، وإبراز المشرط الذي يمكنني أن أعالج به النص .
ومن أهم المصطلحات التي استخدمها أصحاب البنيوية التكوينية مصطلح ( رؤية العالم ) ، ومصطلح ( الوعي القائم والوعي الممكن ) .
ويمكنني أن أقدم تعريفا لكل منهما كما رآهما جولدمان ، فقد رأى جولدمان أن مصطلح ( رؤية العالم ) يعني به تطلعات مجموعة. أو جماعة أو مجتمع لموقعها وموقع غيرها من الجماعات أو المجتمعات التي تختلف معها سلوكا وفكرا وربما وصلت إلى حد المعارضة ، فليست ( رؤية العالم ) عنده رؤية فردية بقدر ماهي رؤية مجتمعية .
أما مصطلح ( الوعي القائم والوعي الممكن ) فيقصد به رصد مظهر السلوك الإنساني ، بمعنى أن لكل إنسان سلوكا وهذا السلوك يستتبع العمل به ، حيث يمتلك الإنسان معرفة ما ، فيصبح الفرد في المجتمع ذاتا عارفة ، ويحمل موضوعا لهذه المعرفة ، وبناء على هذين ( الذات العارفة وموضوع المعرفة ) يستطيع أن يقدم للقاريء وعيا جديدا ، فالوعي فردي وجماعي .
وتأتي المتوالية القصصية ( وسن ) للكاتبة المصرية / هبة بنداري كنموذج مهم في السردية العربية ، فالمتوالية تحتوي على ثلاثين قصة قصيرة ، كل قصة تقدم فكرة مجتمعية مختلفة ، وتبدأ المتوالية بشكل مقصود بقصة ( صرخة ميلاد ) ، وتنتهي بقصة ( اليقين ) ، هناك وعي تام تمتلكه هذه الكاتبة ، فالمتوالية تبدأ بجملة ( عندما فتح الباب وبدأ يناقشني بصوت عال ، جاوبته بلا مبالاة ) ، وتنتهي المتوالية بآيات من كتاب الله العظيم حيث يقول جل في علاه ( إنك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ) ، سورة القصص ( آية 56 ) .
فقصة ( صرخة ميلاد ) وهي الأولى في هذه المتوالية يصور فيها السرد كيف تنفك العقدة الاجتماعية بين رجل مسيطر وسيدة تحلم بالحرية ، هذا على المستوى الفردي والأسري ، وهي ذات العلاقة بين فرد وجماعة ، ومواطن ودولة ، وفكرة جديدة وقانون قديم ، فالولادة في السرد ولادة معنوية ، والمولود هو الحرية .
فالنص السردي يطرح ( رؤية العالم ) من خلال تحطيم القيود على الفكر وعلى الجسد وعلى الشعور ، وأجمل صرخات اللذة والألم هي صرخة من رجل أو امرأة تنجب الحرية ، فالحرية خير ، والشر هو القوة التي تساعد على الاستعباد ، ويساند العقم ضد الإنجاب ، و( الوعي القائم ) هو ذلك السلوك الفردي أو الجماعي الذي يرتضي بالاستعباد ، بينما يمكن للفرد أو الجماعة أن تتحول من الواقع إلى مساحات ( الوعي الممكن ) أو ما أحب أن أسميه أنا ( الوعي الواجب ) فهو أقرب لفهمنا العربي وأكثر ثورية وتحضرا ، فقدرة الفرد أو الجماعة على الوصول لسلوك أفضل يجعلها ملتزمة بالوصول إليه .
ولا توجد في الرواية قصة بعنوان ( وسن ) ، فالكاتبة ترمي بكل فكرة قديمة يظنها البعض واجبا ، ولكنها تطرح فكرتها دون قيود ، تطرح العلاقات الاجتماعية بين الزوجة وزوجها سواء كان شابا أم كهلا ، ذكيا أم غبيا ، محبا أم مستعبدا ، كما تقدم علاقة المرأة بمفردات المجتمع في البيت وخارجه ، فهناك علاقة المرأة بالسينما والتلفزيون والسيارة والمال والفساتين ، علاقتها بحب جديد أو قديم ، وتظل المتوالية تعلو في طرح الرؤية حتى تصل في النهاية إلى علاقة المرأة المتمردة بربها ، فتطرح أسئلة وجودية ، وأفكارا ماركسية ، في محاولة لفهم الدين من خارجه ، ثم تعود مؤمنة رائعة ، حيث إن الإيمان ماوقر في القلب ، واليقين موضعه القلب ولا غير القلب ، فتصل للإيمان في منبعه ، وذلك في مسرودتها الباذخة ( اليقين ) ، فالشابة التي درست جراحات أورام المخ باستخدام الإنسان الآلي ، وهي أحدث أنواع دراسات جراحة المخ في العالم ، ترى أن السيطرة للعلم والعقل والفكر والمنطق ، لكنها حينما ترى غرابا يعلم ابنه ، وقطة تحفر حفرة ثم تهيل التراب لتواري ما أحدثته ، هذا خارج العلم والمنطق ، فمن علم الحيوانات ؟!
( ربما نحن كبشر نمتلك العقول التي تفكر ، ولكن هذه الطيور وتلك الحيوانات إنها نظم مبرمجة بدقة عالية .
صوت لا أدري ماهو ؟ هائل ومدمر ، لا أستطيع أن أتحرك أو أن أقوم من مكاني ، لا أستطيع حتى أن أتكلم ، ولا أرى ، ولا أسمع ) ، وسن ، صـ 168 .
أدركت الكاتبة أن العلم مجموعة من القوانين النافعة ، لكن الضرر في الوقوع في ربقة القوانين هذه ، حيث لا يمكننا أن نفهم مالا نرى ، ومهما بلغنا من العلوم ، فإن الإيمان لن تنبت أشجاره إلا في مساحات القلب الواسعة ، فالذي خلق الحواس لايمكننا أن ندركه بالحواس ، وأن الهداية تأتي من الله جل في علاه ، ولذا تختتم هذه المسرودة بختام غاية في الروعة بآيات الله جل في علاه ( إنك لاتهدي من أحببت ) .
متوالية سردية تقدم لنا مثقفة بعمق المحيط ، ومفكرة برفعة النجوم ، ولو حاولت أن أمر على كل مسرودة بمفردها ما وسعتني مقالات عديدة ، فلم تمنعني قدرتي على إشعال شمعة أن أشعلها ، فلربما استطاع غيري أن يضيء شموعا عديدة .