حسن الحضري يكتب : العمل البحثي بين المنهجية والتخريب
لكل عمل قواعده التي يرتكز عليها، وآلياته التي يتم من خلالها، والعمل البحثي عمل يُفترَض فيه السعي إلى إثبات شيء ما، من خلال منهج علميٍّ قائم على أسس، يتم تطبيقها باستخدام آليات وُضِعت لذلك؛ ولأسبابٍ عديدةٍ اقتحم مجالَ العمل البحثي أناسٌ يفتقدون الموهبة والإبداع، والقدرة على الفهم والتحليل والاستنباط، فجاءت أعمالهم البحثية بطريقة تخريبية، تعمل على التشويش والتزييف، وربما كان ذلك عن غير قصدٍ منهم، لكن السبب الحقيقي أشد وأكثر خطورة؛ لأنه الجهل، وكفى بهم ضلالًا أن يخوضوا فيما لا يعلمون!!.
ومن الأخطاء العلمية المنتشرة بكثرة عند هؤلاء الباحثين: تحريف النُّقول، والخلط بين المصادر، وعشوائية العزو والتوثيق، وبناء نظريات أو مسلَّمات خاطئة، ناتجة عن سوء تطبيق المنهج والآليات، كما يقع الخطأ عن طريق توهُّم تعدُّد المصادر؛ حيث نجد أحيانًا عند النظر، أن تلك المصادر المتعددة ليس لها إلا طريق واحد، لكنَّ تعجُّلَ الباحثِ جعله يعتقد تعدُّد الطرق والروافد، فيتخذها دليلًا لصالحه، دون تمحيصٍ أو نظرٍ في التعليقات العلمية المصاحبة لها.
وربما ورد الخطأ بسبب عشوائية متابعة النُّقول المطبوعة، والتسليم بصحَّتها دون الرجوع إلى أصول المخطوطات، فأحيانًا تقع الطبعة الأولى لمخطوطٍ ما في أخطاء علمية لسبب أو لآخر، ثم تنتشر تلك الأخطاء من خلال المتابعات والنُّقول؛ ولِتفادي هذا النوع من الأخطاء؛ يجب على الباحث عرض هذه النُّقول على الثوابت والقواعد، من خلال عملية استقراء صحيحة، فإذا وجد خللًا؛ رجع إلى الأصل بحسب طبيعته وماهيته.
وقضية أخرى ربما كانت أكثر انتشارًا في البحوث الأكاديمية على وجه الخصوص؛ حيث يسعى الباحثون إلى إثبات أو نفي مسألة بعينها، أو التنظير والتأصيل لقاعدة أو نحو ذلك، فيعمِد بعضهم إلى التلفيق والتدليس، بما يصبُّ في صالح نظريته التي يقوم عليها بحثه، وربما كان الباحث مضطرًّا إلى إثبات النتيجة التي يسعى إلى إثباتها، لكن ليس له عذر في اختلاق هذا الإثبات عن طريق التدليس ونحوه؛ لذا يجب على أساتذتهم توجيههم إلى آليات البحث الصحيحة، ومتابعة خطواتهم أولًّا بأول.
وأحيانًا يعمِد الباحث إلى إيراد ما يوافق مراده من نتائج أثبتها آخرون، دون النظر في كيفية إثباتها، وهذا يضعه تحت طائلة إشكالات وملابسات، يمكنه التخلص منها عن طريق تتبُّع خطواتهم في بناء نظرياتهم أو إثباتها، فربما كانت النتيجة لديهم صحيحة لكن التعليل لها غير صحيح، فلا يجب على الباحث الاكتفاء باستقصاء ما يوافقه؛ بل يتطرق إلى تأصيل المقدمات التي تؤدي إلى النتيجة المطلوبة؛ لأن النتائج التي لا توافق المقدمات الصحيحة؛ تنعدم علاقتها بها وإن كانت النتيجة صحيحة في جوهرها.
ومما يجب أن ينتبه إليه الباحث أيضًا ،احتمال وقوع التصحيف أو التحريف في مصادره المتعلقة بمادة بحثه، ويمكن أن يتعرَّف ذلك من خلال استقراء المادة التي يبحثها، وعرضِها على الحقائق، وهذا يتطلب منه الإلمام أولًا بطبيعة بحثه، وما يتعلق به من معلومات، بجانب القدرات اللغوية والإبداعية، ومن هنا تتضح أهمية الثروة المعلوماتية، التي يحتاجها الباحث؛ إذْ لا ينفعه أن يحصر نفسه في إطارٍ ضيقٍ داخل مجالٍ بعينه من مجالات البحث العلمي؛ فالعلوم شجرة تتشابك أغصانها، ويؤدي كلٌّ منها إلى الآخر، وهذا يوضح لنا بِدَورِه مساوئ العملية التعليمية، التي تعتمد على التخصص، ثم يجد الباحث نفسه مطالَبًا بالإلمام بعلومٍ شتى تتصل بتخصصه، وهو لا يعرف عنها شيئًا؛ لأنه لم يسمع بها في مراحل تعليمه، وليس لديه الموهبة التي تعينه على تحصيلها، وهذا كله ينعكس في النهاية على العمل الذي يقوم به، فنجد كمًّا هائلًا من البحوث والدراسات التي لا علاقة لها بأصول العمل البحثي من قريب أو بعيد، ولا أثر لها إلا التخريب والتزييف.
ولا شك أن النتائج المترتبة على أخطاء البحوث العلمية، تتفاوت آثارها بحسب طبيعتها؛ فالأخطاء الناتجة عن سوء تطبيق المنهج والآليات، تكون أسوأ وأشد من الأخطاء الناتجة عن تناوُل نظريات غير صحيحة من خلال منهج صحيح؛ لأن النظريات غير الصحيحة يسهل تفنيدها والرد عليها، وتحمل في طياتها أدلة بطلانها، أما الأخطاء المنهجية فإنها تؤدي إلى تشتُّت الذهن، وربما قادت بعض الباحثين إلى بناء نظريات مضادة، تؤدي إلى زخمٍ محضٍ لا طائل منه إلا إرباك العملية البحثية، وضياع المزيد من الوقت والجهد في التَّتبُّع والتمحيص والتنقية.
الكاتب : عضو اتحاد كتاب مصر
اقرأ للكاتب
حسن الحضري يكتب : معايير القيادة في الإسلام