قراءة في قصّة “اللعنة” للأديبة المتفرّدة “هبة بنداري”

قراءة معماري: صفاء محمد

بعد أن برعتْ الكاتبة في أعمالها الروائية المتعدّدة، مثل “نفور الظباء”، و “أنثى في ثياب رجل”، و “بلقيس″، ومتواليتها السردية غير العادية “وسَنْ”، وبعد أن أشاد بنصّها الأدبي المترجم للإنجليزية عن متوالية “وسَنْ” “Female on the Nile” كبار النقاد الأجانب، والتي عبّرت فيها بحرفية عن نبض الإنسان عامة، وهموم النساء وأحلامهن في المجتمع العربي والمصري خاصة.

 تناولت “بنداري” في أعمالها هواجس الإنسان وهمومه وأحلامه، بعد أن سبرت أغواره بفلسفةٍ روحية عميقة، وطرحٍ رؤيوي حكيم، ومهارات حكائية بكر، وأدوات سردية ناضجة ومتكاملة، فعبّرت في متواليات غاية في الدلالة والبساطة والسلاسة في آن عن أنّاتهِ وأحلامه، من خلال صور ذهنية عميقة تنقشها ببراعة في ربوع روح المتلقي وحنايا قلبه.

وكعادتها، خرجت علينا قريبًا بنصٍّ سردي مُركّب “اللعنة”، نصٌّ فائق الدلالة والعمق، لا أخاله سيمرَّ من دون أن يتوقّف كبار النقّاد عنده كثيرًا حتى يفكوا شفرته البنيوية والدلالية.

تسبح هبة بنداري كعادتها في فلك الروح، تفصل الروحي عن الترابي، تبني شخوصها بدقّة وعمق، وأظنها هنا قد نحتت شخصية بطلة قصة “اللعنة” من دون أن تسميها عن عمدٍ، لأن الحكاية ربما تمس أرواح معظم النساء. فهي ترسم صورًا ذهنية بريشة الروح، تعانق السماء وتراقص النجوم فوق صفحات الغيم، فتحمل المتلقي إلى ساحتها شيئًا فشيئًا، ساحة العشق الروحي والأقدار السماوية. وفي ذات الوقت تكشف عن الواقع، وتصرخ على مذابح الأحلام ومقابر السعادة، وتنتحب على مقصلة الموروثات والأعراف التي ترفع الناس راياتها في النهار ويحطّمون صواريها في ليل.

لم تأتِ بنداري بعنوان القصة عبثًا، بل إن لفظة “اللعنة” تصيب القاريء بصدمة شعورية وجدانية تجعله يتساءل ويتساءل، يؤهِّل حواسّه كافة لتلقّى التفاصيل، واللفظ من ناحية الدلالة كذلك يوحي بالقدر والحتمي الذي لا فرار منه.

تبدأ الكاتبة الحدث من ذروته، فيزداد المتلقي حيرة وتشويقًا لمعرفة القادم، حيث بدأت باللون الأحمر وبتساؤل محفَّزٍ لللاوعي ومحيّرٍ للوعي لدى القاريء، حين تتساءل: (لم أكن أدري أهي دماؤه؟ أم حنّة عرسي؟) فيدخل المتلقي في حالة من محاكاة المشهد الذي يدور في عقل الكاتبة، لكن الصورة ما زالت مشوشة، أهناك حبيب قد قُتِل، أو مات يوم عرسهما؟ أم هو وجعُ ضلُّ حبيبٍ محفور في جدار الروح يوم عرسها على آخر، وذلك لون حناء عرسها التقليدي الذي لا تدري أكان دمًا أم حنّاء؟

ثم تبدأ بنداري في كشف الستار شيئا فشيئا عن نزف الروح، وضجيج الصمت القاتل حين غامت رؤاها من شدة الدموع المحتبسة والتي تحرق كيان البطلة كله، في عملية تنويه أولية عن حسرتها على ضياع حلمها مرحليًّا. فانتابتها حالة من الذهول، الاضطراب، التوهان المخلوط بالحسرة، فبدأت تُدقّق النظر في كفيها في محاولة إدراك ما تراه، أو بالأحرى إدراك ما يتزلزل في وجدانها، جراء ذلك العرس التقليدي!!

وبدأت تسترجع أحلامها المحفورة في روحها، وتتساءل: (أين القلوب التي خطّت “أم السعد” حروف اسمه بها والتي قضت فيها ساعات طوال؟). سنتوقف كثيرًا عند اختيار الكاتبة لاسم “أم السعد” ودلالته المباشرة والغير مباشرة. فأم السعد مبدئيًا يوحي بشكل مباشر عن سيدة أو عرّافة أو وسّامة تتفاءل الناس بها ويذهبون إليها مستبشرين بالسعادة، لكن ثمّة معنىً آخر عميق وغير مباشر في استحضار شخصية كهذه في المشهد، وهنا تكمن عبقرية هبة بنداري وتفرّدها، فقد أرادت كشف وبشكل مباشر بأن البطلة ظلت طوال حياتها تحفر صورة لفارسها على جدار روحها حتى أصبح هو كل قلبها وشق نفسها، وكأن حروف اسمه ظهرت في كفيها، فيبدأ المتلقي يكشف جزءًا من الحكاية دون أن يدري.

ثم تتابع السرد بأسلوب فلسفي وجداني إيماني راسخ، تصف فيه مدى ارتباط البطلة بحلمها، وبالصورة الروحية التي حفرتها في قلبها للفارس الذي تنتظر أن تلامس روحه روحها فيذوبا معًا بشكل لا يمكن فصله، لأنه موجود في الأصل بأمرٍ من الله، فتقول: (حلمتُ به حتى باتت شراييني لا تحتمل شلاله الهادر بدمي، هو حب لن يفهمه البشر، لأن من أودعه بقلوبنا هو خالق البشر.)، ثم تكشف أكثر عن ذلك المعشوق الذي وصل الوله بالبطلة لأن تكوّن صورة لوجهه في عقلها الباطن، وكلما لاح لها ذلك الطيف، ترى مكتوبًا على وجهه (اقتربَ يومُه) كنوعٍ من استمرار الحلم، وتجزُّر اليقين بأن شقَّ روحها موجودٌ وسيأتي يومًا. ثم يجمحُ الخيال بالكاتبة أكثر، فتحكي كيف كانت البطلة تتحدث إلى ذلك الطيف النوراني وتطلب منه أن يهربا بعيدًا، فيرد هو بعبارة ذات دلالة عميقة ويقين، فيقول: (وهل يهرب الإنسان من قدره؟) في عملية كشفٍ لشخصية المعشوق الذي في خيالها.

ثم تكشف الكاتبة عن مرحلة من التشبّع بالحلم وبروح المعشوق، فتحمل البطلة معه إلى جرزٍ مختلفة الثمار، ويحاوطها الحنين للحياة التي تحلم بها معه أو تتصورها، فتتخيله كيف كان يقطف لها الورود والثمار ويقشرها لها ويتحمل الأشواك والألم كي يسقيها السعادة صافية من دون عناء.

ثم تعترف البطلة مباشرة بأن كل ما حدث هو مجرّد “حلم يقظة” وخيال وتمنّي روحي، طالما كسر ضجيج صمتها وذهولها وحسرتها، تشكو من خلاله بثَّها وحزنها كل ليلة في الأحلام المحفورة في الروح. حتى تذكّرت روح أمها واستحضرت كلمتها لها “أحلام …”، لكن الكاتبة في سردها البارع ذكرت لفظ “أحلام” من دون أن توضح أهو أسم البطلة؟ أم أنها تحاول تصديق كلمة أمها بأن الواقع غير الأحلام.

ثم ترفع بنداري الستار كاملًا، وتقول بأن البطلة لم تفرح بلون فستان زفافها الذي طالما حلمت به كل فتاه، بل إنها رأت دماءها وهي مختلطة بفستانها الأبيض، وتخيلت محبوبها وسط أشباح المعازيم الذين لمحتهم وسط الدموع التي كست مقلتيها، وهي لا تزال تتخيل المعشوق وتدفن رأسها في صدره. ثم تتساءل بعمق ذلك السؤال المركّب وتقول: (أتراهم يحتفلون بعرسنا أم ينعوننا؟)، أي، هل جاؤا ليحتفلوا بعرسي الظاهر التقليدي؟ أم ينعون فراق روحين لم يلتقيا بعد؟ ثم توجّه سياطها نحو المجتمع والعادات والأعراف والموروثات من دون تصريح مباشر، حين تقول: (حلّت اللعنة التي طالما حاولتُ الفرار منها، كما حلّت من قبل على الكثيرين من سكان بلدتنا.)، ثم تختم القصة بألمٍ وأملٍ في آن حين تقول: (لم أعد أقوى إلا على تحريك أناملي. لمستُ بها وجهه الحبيب لأخر مرة قبل سفرنا معًا)، أي أنها أصبحت جثة لا يتحرك بها قلب ولا أحاسيس في هذه الحياة التي تعيشها، فقط أصابعها كرمزٍ للحسيّ، والتي لا فائدة منها سوى أنها تلمّست بها وجه ذلك الطيف النوراني لآخر مرّة قبل أن يسبحون في الملكوت الروحاني الذي لا ينتهي أبدًا، وذلك أيضا نوعٌ من كشف لا إرادي لطبيعة الكاتبة وخصالها الشريفة النبيلة.

متن القصة – “اللعنة”

(حين تخضّبت كفاي باللون الأحمر، لم أكن أدري أهي دماؤه؟ أم حنّة عرسي؟ تكاثرت السحب وتجمّعت بعيناي، ومن ثم أمطرت وابلا من النيران تحرقني بعد أن ثار بركان قلبي، وصمتت الصرخات عندما تقطّعت أحبال روحي.

 رفعتُ يداي أنظر لذلك اللون الأحمر محاولة فك شفرة النقوش عليهما. أين القلوب التي خطّت “أم السعد” حروف اسمه بها والتي قضت فيها ساعات طوال؟ وكلما نقشت حرفه على كفي دقت طبول الفرح بقلبي.

موصول ذلك القلب به، ومحفور اسمه فوق جدران روحي. من هذا الذي يمكنه أن يفرّقنا؟! لا الزمن ولا الحسّاد ولا الظروف والبعاد والهجر ولا حتى تلك اللعنة، تفتّحت عيناي على حبّه. لا أدري حتى متى أحببته؟ ولا كيف؟ ولا لماذا!! كل ما أعرفه أنه قدري وجنتي وناري وعشق حلمت به حتى باتت شراييني لا تحتمل شلاله الهادر بدمي، هو حب لن يفهمه البشر، لأن من أودعه بقلوبنا هو خالق البشر. كلما نظرت إلى وجهه الحبيب رأيت جبينه مكتوب فوقه “”، كم بكيت ليالٍ طويلة وأنا أسمع كلمات تتردّد “حان موعده”، ناشدته أن نهرب، فأرض الله واسعة، كان يبتسم برقته التي تفتّت الصخر ويقول لي: وهل يهرب الإنسان من قدره؟ شهد على حبنا وعهودنا أشجار الزيتون والليمون وأشواك التين الذي كان يقشّره لي، كل شوكة كانت تُغرس بأصابعه كانت تشق أخدودا بقلبي، ولا أدري لماذا إصراره على تحمّل الألم من أجلي! ربّما كان يريد أن يؤهلني حتى أصبر على الوجع حين تحلُّ علينا اللعنة.

 شقت صرخة ذلك الصمت الرهيب، وتبينت منها صوت أمي تقول بلوعة: أحلام… لم أفهم باقي كلماتها، لكنني انتبهت أن فستاني الأبيض قد تحوّل هو أيضا إلى اللون الأحمر القاني! من أين لي بهذا اللون؟! زحف على جسدي دبيب يشبه وخز الأشواك، تلك التي كانت تُغرَس بيده واستشعرها بقلبي. غطّت أنحاء جسدي حتى أنني تهاويت على صدره، ومن بين غيومي تراقصت صور الجموع في حلقة حولنا يصرخون. أتراهم يحتفلون بعرسنا أم ينعوننا؟ حلّت اللعنة التي طالما حاولتُ الفرار منها، كما حلّت من قبل على الكثيرين من سكان بلدتنا. لم أعد أقوى إلا على تحريك أناملي. لمستُ بها وجهه الحبيب لأخر مرة قبل سفرنا معا).

الكاتب : روائي “عضو اتحاد الكُتّاب”

تقرير: ايمى الحملى

شكرا للتعليق على الموضوع