لماذا أصبح السويسريّون أقـلّ وفـاءً للمؤسسة التي يعملون لديها؟

تقرير – سويسرا – التلغراف: يسعى عدد متزايد من الموظفين في سويسرا إلى تغيير وظائفهم. وتُواجه سويسرا نقصًا غير مسبوق في اليد العاملة، على غرار بلدان صناعية أخرى، ويستفيد الموظفون من هذا الوضع، حيث يصبح موقعهم التفاوضي أقوى، خاصة من الفئات الأصغر سنا.

إيلودي (*)، أخصائية في مجال الموارد البشرية من نوشاتيل، في الثلاثينيات من عمرها. غيّرت مشغّلها أربع مرات خلال السنوات السبع الأولى من حياتها المهنية. لكن هذا لم يكن بسبب قلقها أو عدم ارتياحها – حيث كانت هذه الشابة تراكم التجارب في شركة سويسرية كبرى لتكنولوجيا المعلومات.

تقول: “لديّ فرص حقيقية للتطوير المهني هنا، كما أن الاهتمام الذي يتم توجيهه للأفراد أمر أساسي”، وتضيف: ” أنا الآن بالفعل في منصب أعلى مما كنت عليه عندما التحقت بهذا العمل. كما أن العروض التدريبية وثقافة الشركة مُسايران تماما لأحدث التطورات”.

كانت أسباب انتقال إيلودي من وظيفة إلى أخرى هي نفسها دائمًا: مشاكل الإدارة والتسيير. تقول: “في وظيفتي الثانية، قدمت الإدارة وعودا جميلة، لكنها لم تقم بتحويل تلك الوعود إلى أفعال مطلقا”، وأضافت: “لم يحترم الرؤساءُ الموظفين. في وظيفتي التالية، كان المُسيّرون ينتمون إلى المدرسة القديمة. لم يكونوا مهتمين بمهاراتي وبالإمكانيات التي وفرتُها للشركة. وكان تدخلي منحصرا في مهام إدارية”.

تكشف قصة إيلودي عن اتجاه حقيقي للغاية في سوق العمل. فوفقًا لمسح قامت به مؤسسة “برايس ووترهاوس كوبرز” في مايو 2022، اتضح أن 20٪ من الموظفين في سويسرا خططوا للبحث عن وظيفة جديدة في العام الموالي. وأفاد المكتب الفدرالي للإحصاء أنه بين عامي 2016 و2021، ازدادت نسبة التنقل الوظيفي في سويسرا، لا سيما في صفوف العاملين من “جيل زد”، أي أولئك الذين وُلدوا بين عاميْ 1990 و2010. إجمالاً، قام 12.4٪ من الموظفين بتغيير وظائفهم في عام 2021، مقارنة بـ 12٪ في عام 2016.

 نقص العمالة في سويسرا يعكس أبرز التحديات الديمغرافية المستقبلية

في السياق، اتضح أن الأفراد الأصغر سنًا في القوى العاملة هم الأكثر ميلا لتغيير الوظائف. ذلك أن واحدا من كل خمسة أشخاص تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا (21.6٪) ومن 25 إلى 39 (17.7٪) تولى منصبًا جديدًا في عام 2021. أما الحصة المقابلة فكانت حوالي 5٪ فقط في صفوف الذين تتراوح أعمارهم بين 55 و64 عامًا. وهذا توجّه يُمكن العثور عليه في بلدان أوروبية أخرى ، على الرغم من عدم توفر إحصاءات دولية قابلة للمقارنة.

الجاذبية بدلا من الانتقاء

ترتبط الرغبة في التنقل المهني بمستويات التوظيف الكامل التي شهدتها سويسرا في السنوات الأخيرة وبانخفاض معدل البطالة فيها. ووفقًا لدراسة عن القوى العاملة نُشرت في يناير 2023، يوجد حاليًا أكثر من 100000 وظيفة شاغرة في سويسرا. ومن الواضح أن هذا النقص غير المسبوق في العمالة بصدد تغيير موازين القوى بين الشركات والموظفين.

10

لم تعد مهمة القائمين على عمليات الانتداب والتوظيف تتمثل في الانتقاء والاختيار، بل في اجتذاب أشخاص لا يجدون صعوبة تُذكر في العثور على وظيفة جديدة، وخاصة من فئة الشباب. لذلك يُعدّ انتداب موظف جديد تحديًا، ولا تقتصر الظاهرة على القطاعات التي يكون فيها الطلب أعلى، مثل تكنولوجيا المعلومات والصحة.

على سبيل المثال، يُوجد حاليا في “كولاج شامبيتيه” في كانتون فو، وهي مدرسة خاصة توظف ما يقرب من مئتين وخمسين شخصًا، حوالي 20 وظيفة شاغرة. وتقول أنياس غابيرو، رئيسة قسم الموارد البشرية فيه: “بالنسبة لتوظيف المعلمين والمعلمات في مرحلة الطفولة المبكرة والعاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات، كان السوق بالفعل شحيحا منذ خمس سنوات”، وتضيف: “التحدي الذي نواجهه يتمثل في تعيين معلمين أكفاء في مجالهم ويمكنهم العمل بالفرنسية والإنجليزية، وربما بلغة ثالثة”.

بشكل مستمر، تظهر الدراسات أن الأمل في الحصول على راتب أفضل هو السبب الرئيسي لتغيير الوظائف. وفي مقال نشرته مؤخرًا صحيفة نويه تسورخر تسايتونغ  (تصدر بالألمانية في زيورخ)، يسلط ماتياس مولونيه، مدير مركز إدارة الموارد البشرية والقيادة في جامعة زيورخ للعلوم التطبيقية، الضوء على هذا الاتجاه، ويلاحظ أن تغييرا جذريا حصل بالفعل في أواخر عام 2010. إذ أصبحت طبيعة التسلسل الهرمي مهمة للغاية في تحديد رضا الموظفين. كما أصبح التقدير الذي يتم إظهاره للموظفين على جهودهم هو الشغل الشاغل.

مع ذلك، فإن الدافع وراء تنقل الموظفين الشباب (من وظيفة لأخرى) ليس عدم الرضا بالضرورة، بل إن التعطش لخوض تجارب جديدة يمثل عاملا مهما في هذا القرار. تقول مانويلا (*)، وهي مهندسة ميكانيكية تبلغ من العمر 31 عامًا في كانتون فو: “عندما تنتهي من تدريبك، تشعر بالفضول وتريد تجربة أنواع مختلفة من الوظائف”. وهي تعمل بالفعل حاليا لدى ربّ عملها الثالث. وتضيف: “بعد التخرج، انتقل زملائي الطلاب جميعًا إلى ثلاث أو أربع وظائف، حيث مكثوا لمدة عامين تقريبًا”.

لا حاجة لخطاب تعريفي ولا سيرة ذاتية

تبعا لذلك، تغيّرت طريقة الانتداب، ولم يعد يكفي مجرد نشر إعلان على مواقع التوظيف. تقول مانويلا، التي يزداد الطلب على مؤهلاتها: “بالنسبة لوظيفتي الحالية، تم العثور عليّ من خلال شبكة “لينكد إن” الافتراضية من قبل أحد المهنيين الذين تعرفت عليهم من خلال وظيفة سابقة.. اتصل بي المدير وأقنعني بتغيير وظيفتي مرة أخرى”.

يقول أنتوني كافّون، مدير وكالة “مايكل باج” للتوظيف في جنيف، إنه لم يعد من الضروري للمترشح تحرير خطاب تعريفي ولا إرسال سيرة ذاتية رسمية. لقد تحول موقع “لينكد إن”، الذي يعمل في الوقت الحاضر كساحة تبادل للمواهب، إلى أداة المعلومات الأساسية لشركات التوظيف. وفي الآونة الأخيرة، أمكن للمستخدمين المهتمين بوظيفة معينة إرسال “ترشح مبسط” بنقرة زر واحدة. ويقول كافون: “إن عملية التوظيف التقليدية التي تستمر على مدى شهرين وتتخللها أربع جولات من المقابلات تثبط 80٪ من المترشحين”.

هناك أيضا ظاهرة انجذاب العمال الشبان الذين تستهويهم المغامرات إلى الشركات الناشئة. فهذه الشركات التي تم إنشاؤها حديثًا لديها طموحات للتأثير والنمو السريع، ولكنها مُعرّضة أيضًا لخطر الاختفاء بعد ستة أشهر. في المقابل، تراجعت قطاعات تقليدية كالمصارف والتأمينات.

ويقول فريديريك روجيه، مؤسس شركة Air HR Global Solutions: “في الفئة العمرية من 20 إلى 30 عامًا، يحتاج الناس إلى التحفيز. إنهم يكرهون المخططات التنظيمية والسلطة، بينما يتوقعون قيادة قوية من رئيسهم المباشر، فضلاً عن القدرة على اتخاذ قرارات سريعة. فالبيئة (المهنية) الرشيقة، أي التي تتميز بالتجاوب والمرونة والتعاونية، هي أفضل ما يناسبهم”.

يقول كافّون: “نادرًا ما يكون لدى الشباب رؤية مهنية تمتد إلى ما بعد ثلاث سنوات”، ويضيف شارحا: “لديهم مفهوم استهلاكي نسبيًا للعمل. إذ يسأل المرشحون أنفسهم ما الذي يُمكن أن تحققه الوظيفة لهم، بدلاً من التساؤل عما يُمكن أن يجلبوه هم إلى الشركة”. ويستشهد بعدد من الدراسات التي تتوقع أن الجيل الجديد سيختبر حوالي خمسة عشر من أرباب العمل المختلفين خلال حياتهم المهنية، مقارنةً بما يتراوح بين خمسة وستة فقط لمن هم حاليا في العقد السادس من أعمارهم.

مدير وكالة “مايكل باج” للتوظيف في جنيف أشار أيضا إلى أن “جيل زد (أي الشبان المولودين بين عاميْ 1990 و2010) يمنح الأولوية لساعات العمل المرنة وللعمل عن بُعد، فضلاً عن توفر التوازن بين العمل والحياة. إن أهم شيء بالنسبة لهؤلاء الموظفين هو أن يكونوا قادرين على تعلّم شيء ما من خلال القيام بإنجاز مشروع معين. إنهم يريدون أن يكون لوظيفتهم تأثير إيجابي في عالم اليوم”.

الاحتفاظ بالموظفين تحوّل إلى تحدّ

من الصعب أيضًا الاحتفاظ بالموظفين المطلوبين باستمرار من الشركات الأخرى. في مجال تطوير التكنولوجيا شديد التنافسية، تبرز شركة “إنفومانياك” Infomaniak كواحدة من اللاعبين السويسريين القلائل القادرين على التنافس مع الأربعة الكبار (أي غوغل وآبل وفيسبوك وأمازون) مع توفير مجموعة مماثلة من الخدمات.

لكن بوريس سيغنتالر، المدير الاستراتيجي للشركة التي تتخذ من جنيف مقراً لها، يروي هذه القصة: “بعد فترة وجيزة من انضمامه إلينا، تعرض أحد مطورينا لعملية اصطياد غير مشروع من قبل شركة في كاليفورنيا لشغل وظيفة في باريس. فقد عرض عليه الأمريكيون مجموعة من الأسهم بقيمة 170.000 فرنك، وراتبا يزيد بنسبة 20٪ عن راتبنا، إلى جانب جميع الامتيازات التي تشتهر بها هذه الشركات، مثل الوجبات المجانية. بصفتنا شركة صغيرة ومتوسطة تضم 200 موظف، ليس بإمكاننا المنافسة في ظل شروط من هذا القبيل”.

تعتمد شركة “إنفومانياك” بشكل أساسي على ثقافة الشركة لكسب ولاء الموظفين. وتدعي الشركة أنها ملتزمة بشدة بالتنمية المستدامة، مع ضمان الاحتفاظ بالوظائف في سويسرا. كما تهدف إدارتها إلى أن تكون أفقية قدر الإمكان.

إضافة إلى ذلك، أطلقت الشركة برنامجًا لوضع نصف رأس مال الشركة في أيدي الموظفين، وهي عملية تؤدي إلى تحويل الموظفين إلى مُساهمين وتتيح لهم الاستفادة مالياً من نجاح الأعمال. يقول سيغنتالر: “أهم شيء للمتقدمين للعمل لدينا هي قيمنا”، ويضيف “هذه المسألة لها الأسبقية على مسألة الراتب في قرارات المرشحين بالانضمام إلينا”.

اقرأ ايضاً

السويسريّون كانوا يهاجرون إلى فرنسا للعمل خدَمًا في البيوت

شكرا للتعليق على الموضوع