وايانغ كوليت: أسطورة الظلال الماليزية

عبدالله بوقس – ماليزيا
عبدالله بوقس – التلغراف

صحفي وكاتب – مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا – مقيم في كوالالمبور

بين الظلال العابرة والنور الخافت، وقفتُ أمام شاشةٍ من قماش مشدود بمهارة، وقد ارتفع على مسرح تقليدي ليسرد حكايات أقدم من الزمن، وأبعد من الواقع. كان ذاك لقائي الأول بـ”وايانغ كوليت”، فن الدمى في الثقافة الماليزية، وهو فن أضاء لي ظلام المعرفة، وكشف لي عوالم أسطورية من حكاياتٍ وهبتني شعوراً بانفصال الحاضر وارتباط الروح بالماضي.

في لحظةٍ، استحال العالم حولي إلى نسيج من الصور والأصوات، حيث تعالت الموسيقى التقليدية وأضفت جواً سحرياً أخاذاً.

تتجاوز عروض وايانغ كوليت كونها مجرد رواية أو تسلية؛ إذ تتخذ طابعاً فلسفياً يعكس التراث الماليزي-الهندي، ويغوص في أعماق المجتمع، ويجسد صراعاته ومعتقداته، ليمتد عبر الزمن ويتحد مع طبيعة الإنسان، فقد كانت هذه التجربة بمثابة نافذة إلى نسيج المجتمع الماليزي، حيث تبعث رسائل الحكمة وتغذي الوعي الإنساني.

اللقاء الأول مع “الظل

نشأت عروض وايانغ كوليت في مجتمعات قروية تحتفي بالقصص والأساطير التي تحمل في طياتها أبعاداً ثقافية وفكرية راسخة، فقد وقفتُ في إحدى هذه القرى، محاطاً بجمهور بسيط ولكنه شغوف، وهم يشاهدون كيف يتحول الجلد المنحوت بإتقان إلى دمى تتحرك في سيمفونية من الظلال.

يطلقون عليه “وايانغ” ويعني “الظل” باللغة الملايوية، و”كوليت” تعني “الجلد”، ذلك لأن الدمى تُصنع من جلد الجاموس أو البقر، لتعكس تقاليد تُشيد بروح الطبيعة.

إن وايانغ كوليت ليست مجرد فن، بل هي رمز للذاكرة التي تتوارثها الأجيال، وتلتقي في سردها بين أصالة القصة وعمق التأمل.

مثلما يروي الفلاسفة القدماء حكاياتهم ليصلوا إلى جوهر الحقيقة، كان سيد الدمى يروي حكايات تُستلهم من الملاحم الهندية مثل “رامايانا” و”ماهابهاراتا”، متمازجة مع أساطير محلية تبرز فضائل الخير ومآسي الشر، لتترك على الشاشة البيضاء صوراً تتراقص بين الصراع والتصالح.

الخير والشر على مسرح الظلال

تنطلق عروض وايانغ كوليت مع قدوم الليل، حيث يتوحد الظلام مع الضوء ليشكلا فضاءً لحكاية كونية، تتدرج قصصها بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة.

تبدأ الحكاية بتقديم الشخصيات وصراعها الداخلي، ثم تتوالى المعارك والمؤامرات في قالب مسرحي متقن، ليصل الأمر إلى ذروته عند اقتراب الفجر، ويحل السلام في مشهد يحمل في طياته رسالة المصالحة الأبدية.

هذا التسلسل الدرامي للحكايات يذكّرنا بأعمال أدبية وفنية أخرى تجسد الصراع الوجودي للإنسان، مثل ملحمة “الكوميديا الإلهية” لدانتي أو قصة “فاوست” لغوته، حيث يتخذ البطل قراراته ويواجه عواقبها في رحلة استكشاف الذات.

كذلك كان العرض ينبض برسائل سياسية واجتماعية، ينقلها سيد الدمى بذكاء، مضيفاً أحداثاً عصرية تعكس قضايا المجتمع وتفتح المجال للتفكير والنقاش بين الجمهور.

11

حكيم في عالم الدمى

يعد “توء دالانغ” أو سيد الدمى بطل العرض، فهو ليس مجرد محرك للدمى، بل هو حكيم ومعلق اجتماعي، يعيد صياغة الحكايات ويربطها بالواقع المعاصر، متمثلاً دور الفيلسوف الذي يطرح الأسئلة ويترك الإجابات للجمهور.

تحت يديه، تتحرك الدمى وكأنها تنبض بالحياة، ويعلو صوتها ليعبّر عن عواطف متنوعة، من الشجاعة إلى الخوف، ومن الحب إلى الكراهية.

كان دالانغ في عرضه يشبه الحكواتي، ذلك الذي يجمع الناس حوله ليحكي لهم قصص الأبطال والأخيار والأشرار، ويطرح أمامهم أسئلة الوجود والحياة.

أُبهر الحاضرون بتفانيه، فقد تجاوز حدود العرض ليصبح صوتاً يعبّر عنهم، وصار جسراً يربط بين تراثهم الغني وعالمهم الحديث المتغير، حيث تعالت الأصوات بين التأييد والنقد، ليبقى السؤال حول قيم هذا الفن ودوره في تشكيل هوية المجتمع.

الحفاظ على إرث الظلال

لكن مع تقدم الزمن، وجد وايانغ كوليت نفسه في مواجهة تحديات معاصرة، تتمثل في التطور التكنولوجي والنقد الديني والسياسي. بدا وكأن هذا الفن العريق يقترب من نهايته، إذ ينظر البعض إليه كفن قديم تجاوزته الوسائل الحديثة للترفيه، بينما يراه آخرون على أنه يحمل رسائل تتناقض مع بعض القيم الدينية السائدة.

ولهذا السبب، أطلقت منظمة ماليزية تدعى “فيوجن وايانغ كوليت” حملة لإحياء هذا الفن، عبر مزج تقنيات حديثة وقصص عصرية تواكب اهتمامات الجيل الجديد، فكانت قصص الأفلام السينيمائية مثل “حرب النجوم” و”رجل الوطواط” وسيلة لجذب الشباب وإدخالهم إلى عالم الدمى.

ورغم النجاح الذي حققته هذه المبادرات، لم تسلم من الانتقادات، حيث اعترض بعض نقاد التراث على التحريف الذي أضافوه للعروض، معتبرين أن هذا التحديث يطمس هوية الفن ويبعده عن جوهره. لكن مع ذلك، استمرت الجهود لإبقاء وايانغ كوليت حيّاً، لتبقى هذه الظلال بمثابة إرث ثقافي يعبر عن روح الشعب الماليزي وذاكرته التاريخية.

12

رحلة الروح بين النور والظل

بين تلك الظلال المتراقصة والضوء الخافت، وجدتُ نفسي أسافر عبر الزمن، أعيش حكايات الأبطال والملوك، وأتأمل في رموز الخير والشر، وأفكر في طبيعة الحياة وصراعاتها.

كان عرض وايانغ كوليت أكثر من مجرد ترفيه؛ كان درساً في فلسفة الوجود، حيث يدور الزمن وتتكرر الحكايات، وكأنها تسعى للتأكيد على أن ما يُحكى من قصص الأمس، يعيد نفسه اليوم، ويستمر في المستقبل.

في تلك الليلة، غادرت المسرح محملاً بتأملات جديدة حول معنى الحياة، وتذكرت أن الظل لا يمكن أن يكون بلا نور، وأن الحكاية، مهما تغيرت تفاصيلها، تبقى روحاً تنتقل من جيل إلى جيل، لتبقي الإرث حياً، وتعيد طرح أسئلة الأبدية.

اقرأ ايضاً

فاكهة الدوريان في ماليزيا “تجربة استثنائية وفوائد متعددة”

شكرا للتعليق على الموضوع