“السفير” أول الضحايا الكبار لأزمة الصحافة في لبنان

يودع القراء في لبنان والعالم العربي نهاية الشهر الجاري النسخة الورقية من جريدة “السفير” التي احتلت على امتداد أربعة عقود من الزمن مكانة خاصة في الصحافة اللبنانية والعربية.

تعيش الصحافة المطبوعة اللبنانية، والعربية عموماً، أزمات حادة منذ سنوات، إلا أن الاعتقاد الذي بقي سائداً هو أن المنابر الصحفية العريقة والمهمة في لبنان لن تكون أول ضحايا هذه الأزمة، إلى أن وقعت مفاجأة إعلان ناشر ورئيس تحرير جريدة “السفير”، طلال سلمان، عشية الذكرى الثانية والأربعين لصدور العدد الأول منها، بأن الجريدة خسرت معركتها أخيراً في مواجهة الظروف السياسية والاقتصادية، التي فاقمت من الأزمة، “لاسيما وأنها قد انعكست على الدخل الإعلاني وعلى الاشتراكات وصولا إلى البيع″، على حد قول سلمان في الرسالة التي وجهها إلى أسرة تحرير جريدة “السفير”.

لسنوات طويلة مثَّلت “السفير” واحدة من أهم المنابر العربية النافذة والمؤثرة، وأوسعها انتشاراً، في لبنان والمشرق العربي، وتلقى اهتماماً كبيراً في الدوائر السياسية والفكرية والثقافية في المغرب العربي.

وكتب فيها وتخرج منها عدد كبير من الصحفيين المهمين والكتاب والشعراء، وناهيك عن كاريكاتير الفنان الفلسطيني الشهيد ناجي العلي، الذي كان من العلامات الفارقة للجريدة لفترة طويلة، وفقاً لما جاء في النبذة المنشورة على موقعها الإلكتروني. وكانت بمثابة فاتحة يوم عمل عشرات آلاف المتابعين، من يساريين وقوميين، ولم يكن بمقدور العاملين في السياسة تجاهلها، حتى أولئك الذين يختلفون مع منطلقاتها الفكرية وخطها التحريري.

فقد كانت “السفير” جريدة نافذة لأنها عملت على أن تكون منبراً يعبِّر عن وجهة نظر طيف واسع من أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، ومنغرسة في الهم الوطني الفلسطيني، الذي شكَّل حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي الشاغل الأكبر للشعوب العربية، ويفرض نفسه على السياسات الرسمية، ومن المقولات المشهورة التي قيلت عن “السفير” في هذا الخصوص “السفير تقرأ من صفحتها الأخيرة”، في إشارة إلى أن القراء كانوا ينتظرون بشغف ماذا سيقوله الفنان الشهيد ناجي العالي، على لسان شخصية حنظلة، في الرسم الكاريكاتيري الجديد، حتى أصبح حنظلة يحسب له ألف حساب، ورمزاً  للفلسطيني المناضل من أجل حق عودته إلى بلاده.

الكثير من الأمور تغيرت بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982، ونشوء نسق وميزان سياسي جديد في لبنان، بيد أن “السفير” استطاعت أن تكيف نفسها والمحافظة على موقعها إلى حد كبير، رغم تراجع عدد القراء والتمويل، والحملات السياسية التي تعرضت لها من الدول العربية النفطية، والمنافسة الشرسة مع منابر مدعومة مادياً من تلك الدول، لكن الجريدة بدت في السنوات القليلة الماضية غير قادرة على المحافظة على خط تحريري ومهني يجتذب جمهور المهتمين بالسياسة، سواء كانوا من المؤيدين أو المعارضين.

حقيقة لا تغيب عن بال ناشر ورئيس تحرير جريدة “السفير”، طلال سلمان، وعبَّر عن ذلك بالقول متسائلاً في تصريح لوكالة “رويترز”: “أصبحنا في زمن آخر.. أليس كذلك؟”، وأضاف موضحاً ما ذهب إليه في تساؤله: “أولا الصحافة مرتبطة بالحياة السياسية عموماً.

في لبنان لا يوجد سياسة.

لا حياة سياسية نهائياً.

اندثرت الحياة السياسية.

يوجد بلد بلا دولة بلا مؤسسات بالمطلق لا رئيس جمهورية.

مجلس نواب لا يُجمع وحكومة كلما التأمت نشهد صراعا.

لا يوجد أحزاب بالمعنى الكبير للكلمة بمعنى الحياة الديمقراطية يمين ويسار ووسط وفوق وتحت.. الخ. لا يوجد نقابات عمالية.. نقابات مهنية..”.

حالة الموات في الحالة السياسية العربية، وتأثيراتها على الصحافة المطبوعة، وباقي وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ، تهدد في لبنان بتوقف صحيفة “النهار” العريقة، وكذلك صحيفة “اللواء”، وتهدد العديد من المنابر الأوسع انتشاراً في مصر وبلدان عربية أخرى، فحسب إحصائيات رسمية تراجع عدد ما تطبعه جريدة “الأهرام” يوميًا إلى قرابة 180 ألف نسخة، توزع منهم 140 ألف نسخة تقريباً، وتبلغ نسبة المرتجع منه 25%، أي أن “الأهرام” لا توزع سوى ما يقارب 100 ألف نسخة، غالبيتها لمؤسسات رسمية.

بينما جريدة “الأخبار”، الثانية من حيث الترتيب في الصحف المصرية، لا تسوِّق سوى 110 آلاف نسخة فقط، يباع منها ما يقارب 60 ألف نسخة، في بلد يبلغ عدد سكانه أكثر من 90 مليون نسمة.

ويبدو أن أزمات المنابر الصحافية في لبنان والبلدان العربية “على الجرار”، كما يقول المثل الشعبي العربي، وبخسارة منبر عريق، مثل جريدة “السفير” بنسختها الورقية، يخسر القارئ العربي ليس فقط مصدر معلومات مهم، بل جزءاً من ذكريات الشباب بالنسبة لمن عايشوا مرحلة صدور العدد الأول من “السفير” في آذار/مارس 1974، وسنواتها الذهبية حتى عام 1982، ومحافظتها على مكانتها في مقاعد الكبار لسنوات طويلة، وبصرف النظر عن الاختلاف مع خطها التحريري أو الاتفاق معه في السنوات الأخيرة، يشكِّل توقفها خسارة كبيرة للصحافة العربية والقارئ العربي.

عامر راشد

 

شكرا للتعليق على الموضوع