هشام الكاشف يكتب : ما بين الحدائقِ والمزابلْ
كتب: هشام الكاشف
بعد حضوري أحد الافراح لأحد أصدقائي المنتسبين للطبقة الوسطى العليا ثار في ذهني تساؤل عن لماذا كل الأفراح التي حضرتها تقريباً لابد أن تكون الأغاني التي تعمل أثناء الفرح هي ما أحب أن اسميه “أغاني العشوائيات” بل ويتباهى أفراد تلك الطبقات العليا والمتوسطة بمن يستطيع منهم الرقص مثل مغنيّ تلك الأغاني في حين أن نفس هؤلاء الأفراد حين يتكلمون عن تلك الأغاني فهم يكيلون لمغنييها ولمن يستمعون إليها أشد الإتهامات بالإسفاف وبإفساد الذوق العام إلخ.
آثار إندهاشي من هذا التناقض تساؤل أخر داخل ذهني لماذا تنهزم الطبقات العليا والمتوسطة في مصر ثقافياً أمام ثقافة طبقة العشوائيات لماذا تفرض هذه الطبقة ثقافتها علي الطبقات الأعلى؟
أعتقد إن إجابة هذا السؤال تعود ربما لحقبة ثورة الضباط عام 1952 حيث سقط الحكم الملكي وسقط معه نخبة الإقطاعيين وملاك الأراضي ورؤوس الأموال ليحل محله حكم العسكريين ونخبة جديدة.
فالنخبة السابقة لثورة 52 التي كانت تسعى نحو الحداثة الأوروبية وتسعى لتقليدها ونشرها في المجتمع مع دمجها بالثقافة الداخلية كارتداء البدلة مع الطربوش مثلاً، وكانتشار الصالونات الثقافية وانتشار السينما والمسارح وفنون الأوبرا والأناقة المعمارية وقواعد الإتيكيت ومسايرة خطوط الأزياء والموضة العالمية، كل ذلك كهدف يسعى كل أفراد الطبقات للوصول إليه ولابد لكي تكون من النخبة حينها أن تدركه وتشارك به.
أما مع مجئ حكم العسكريين ومشروع عبد الناصر فلم يتم وضع أي مشروع ثقافي معبر بشكل حقيقي عن النخبة الجديدة في المجتمع فقد تبنى العسكريون فكرة العهد البائد ليطلق علي كل ما كان في تلك الفترة وحاولوا التمرد عليها ثقافيا مع محاولة الحفاظ علي وضع الفن والأدب ودفعهم تجاه دعم فكرة “القومية العربية” ولكن ما حدث انه لم يكن هناك مشروع ثقافي حقيقي معبر عن تلك الطبقة ما أدى لتحولها لحالة المسخ فهي تشتهي أن تكون مثل النخبة القديمة وفي نفس الوقت تحاول أن تتصالح مع فكرة تمردها عليها وهو في رأيي ما أوصل المجتمع حاليا لمثل هذه المرحلة من التناقض.
فالمجتمع يدعي انه يملك ما يطلق عليه مجموعة قيم الوسطية والطبقة المتوسطة التي هي في رأيي عبارة عن (طق حنك) ليست الا مجموعة من الإدعاءات الفارغة والقيم الجوفاء التي لابد أن تظهر بها في العلن لكنك تتخلى عنها بينك وبين نفسك او بينك وبين المقربين منك، فنجد علي سبيل المثال لا الحصر أن الألقاب المدنية تم إلغاؤها لكن جرب أن تستمع للقضاة وأعضاء النيابة وكل منهم ينادي الأخر بلقب (بك) او جرب أن تنادي ضابط الشرطة بدون لقب (باشا) بعد اسمه لكي يتم معاقبتك بتهمة أنك (نسيت نفسك يا كلب) ويمكنك أن تقيس ما سبق علي ملايين الأمثلة التي تدل علي التناقض في مجتمعنا.
واعتقد إن الإجابة السابقة ربما تساعد في فهم مبررات الهزائم الثقافية المتلاحقة أمام طبقة العشوائيات بأغانيها بأفلام السبكي الخاصة بها برقصها بثقافتها الحياتية واليومية بمصطلحاتها في الحديث حتى شتائمها وهو ما يمكن أن يتضح كالأتي:
الطبقة المتوسطة تملك منظومة ثقافية وفكرية مدعية وجوفاء وغير أصيلة وتعاني من التناقض، مع اضمحلال الثقافة الحداثية الحقيقية وانتشار فكرة المظهر على حساب الجوهر، راقب الآف الكتاب والشعراء معدومي الموهبة والثقافة العلمية الذين ظهروا منذ السبعينيات حتى الأن على سبيل المثال، بالإضافة لظهور أشكال التدين والتعليم المظهري والتباهي به.
بدأت ملامح التمرد من الطبقات التي عانت من ويلات ثقافة الطبقة الوسطى بسبب تهميشهم وعدم قدرة تلك الثقافة علي الإنتشار واستيعاب الأخرين بجانب وجود سلاح الدين في يد الطبقى الوسطى، وهو ما أدى لإنتشار الأفكار المتشددة بين تلك الطبقات كنوع أخر من التمرد وكبداية له، ومع ترويض الدولة للدين ظهر النوع الجديد من التمرد الثقافي من خلال الملابس الغريبة والرقصات وكلمات الأغاني ونوعيتها وقد ساعدت وسائل التواصل الحديثة علي انتشار تلك الثقافة لتتحول بشكل فعلي لتكون هي الثقافة القائدة في المجتمع التي يسعى الجميع إليها.
راقب رغبة أغلب الأفراد في أن يظهروا بمظهر (الصيّع) وفخرهم بقدرتهم علي العراك والسباب و (أوعى تكون فاكرني محترم!) باللإضافة للسخرية من كل شئ جاد -السخرية من كونك تشتري الكتب او انك محترم- مع تحول كلمة إنت طيب لنوع من السباب يستدعي الرد عليه!
هذا هو التاريخُ . . يا بلقيسُ ..
كيف يُفَرِّقُ الإنسانُ .. ما بين الحدائقِ والمزابلْ.
أتفق تماما مع ما قاله العظيم نزار قباني في رائعته “بلقيس” أن الحضارة تنبع من قدرة الإنسان على التمييز بين الجمال والقبح، ويبدو أننا نتجه نحو القبح بخطى حثيثة، حيث تركنا تقليد الحداثة لتقليد مظاهرها ثم الإنكسار أمام تمرد العشوائيات، وحتى ثورة الخامس والعشرين من يناير من الناحية الثقافية وقدرتها على تغيير الثقافة كانت تدعو للرثاء والشفقة وربما الندم علي المشاركة بها بسبب الوجوه التي أفرزتها لتطفو على الساحة الثقافية والإجتماعية والفنية.
ويبدو أن مصر ستستمر كما هي لفترة طويلة طالما استمر الوضع على ما هو عليه وطالما لم يسمح النظام الإجتماعي بوجود فلاسفة ومفكرين لديهم القدرة على وضع وإنتاج أفكار تسمح بحدوث تغيير ثقافي وسياسي ومجتمعي حقيقي على المدى البعيد.