لماذا تتزايد أعداد المغتربين الآسيويين حول العالم؟
يغادر وان نورافلي رازالي أحد المطاعم، ويسير نحو الجانب الأيسر من سيارته ليفتح بابها، ثم يتذكر فجأة أنه عاد إلى وطنه ماليزيا، وأن مقعد السائق يقع على الجانب الآخر من السيارة. ثم يقول لنفسه ضاحكا: “أنظر، لقد أمضيت فترة طويلة خارج الوطن”.
ويعمل رازالي مهندسا كيميائيا، ويبلغ من العمر 38 عاما، ويحب أن ينادى باسم “أفلي”. وهو يعيش حاليا مع عائلته في دبي، حيث يعمل لدى شركة “لوبريزول كوربوريشن” الأمريكية في قطاع الحقول النفطية. كان أفلي يحلم على الدوام بمهنة خارج وطنه الأصلي ماليزيا.
وبعد تخرجه في إحدى جامعات الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2001، عمل في وطنه الأم ماليزيا قبل الانتقال مجدداً إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2006، عندما حصل على عمل في شركة “شلمبرجير” لخدمات الحقول النفطية.
لم يحصل حينها على المخصصات الكاملة التي تقدمها بعض الشركات للوافدين، ولكنه حصل على مرتّب جيد، وسكن معقول، وتذاكر السفر لقضاء الإجازات في وطنه، كما يقول.
ويتذكر قائلاً، وهو يأكل بعضاً من بطاطس ماكدونالد المقلية: “أردت العيش في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأبد. كنت أحيا الحلم الأمريكي.”
ويضيف: “كان الحافز هو العمل خارج الوطن، والحصول على أكبر قدر ممكن من الخبرة.”
وبعد عقد من الزمن، لا يزال أفلي يعمل مع وافدين من كافة بقاع العالم. ويقول: “ربما يكون رئيسك في العمل من كوريا الجنوبية، وزميلك المهندس من الصين، وأحد المتدربين من الولايات المتحدة الأمريكية، ثم تجد عاملين محليين من العرب. إنه خليط جيد نوعاً ما”.
ويعد ذلك تغيرا صارخا مقارنة بالماضي، عندما كان الوافدون عادة يأتون من الدول الغربية؛ وأغلبهم من الرجال المتزوجين في منتصف العمر. أما اليوم، فالوافدون من الآسيويين على الأرجح، إن لم يكن أكثرهم.
وقد لاحظت شركة “إي سي أي إنترناشينال” في تقريرها بعنوان “مسح للتنقلات الإدارية لعام 2016” تغيرا واضحا في تركيبة العمالة الوافدة، وقال التقرير: “تغيرت التركيبة النموذجية للعمالة الوافدة. وتعد آسيا على الأرجح مصدرا رئيسيا للمغتربين، مثلها مثل دول أوروبا الغربية، أو أمريكا الشمالية”.
التحول شرقاً
إنها نزعة مرتبطة بالتوسع العالمي للشركات الآسيوية، وهي نزعة بدأت عندما امتد نشاط اليابانيين خارج وطنهم في ثمانينيات القرن الماضي. ثم ازداد الأمر أكثر بعد الأزمة المالية في عام 2008 عندما انضمّت الصين إلى المنافسة الخارجية.
يقول لي كواين، المدير الإقليمي لمنطقة آسيا لدى شركة “إي سي أي”: “من المرجح أن ترسل الشركات الآسيوية موظفيها للعمل خارج أوطانهم أكثر مما تفعل الشركات الغربية. وغالباً ما ترسل الشركات الغربية عددا قليلا من المديرين وتوظف عاملين محليين. أما الشركات الآسيوية فتميل إلى إرسال عاملين أكثر، بمن فيهم العاملين ذوي المستويات المبتدئة.”
ويضيف: “تعد الصين نموذجا واضحا، وكذلك اليابان وكوريا. فهذه الدول ترسل مديرين من ذوي المستويات المتقدمة والوسطى، وحتى المستويات المبتدئة، والمهنيين. ويتعلق الأمر، جزئياً، بعملية التفاهم، غير أنه يتعلق أيضاً بمسألة الثقة.”
للعديد من الشركات الآسيوية – وخاصة الصينية والكورية واليابانية والهندية- ما تسميه شركة “تشابمان سي جي” لتوظيف العمالة الدولية، والمتخصصة في الموارد البشرية، “أجندة قوية جداً للمهارات المحلية”. بعبارة أخرى، تريد تلك الشركات أن توظف عمالة من بلدانها، وأن تدربهم وتضع النخبة منهم في مراكز عليا.
في كوريا الجنوبية، يُنظر إلى الخبرة الدولية باعتبارها من المتطلبات الأساسية للترقية إلى المراكز العليا في الشركات الكبرى. وفي البرّ الصيني، تستحث الحكومة أكبر الشركات الصينية على التوسع عالميا في إطار سياستها المتعلقة بـ”الانتشار الخارجي”.
والمحصلة هي كثير من عمليات الاندماج والاستحواذ، حتى إن العديد من الشركات الصينية قد فتحت مكاتب لها في مدن كثيرة حول العالم. ويعمل في أغلب هذه المكاتب العالمية موظفون وافدون من المقرات الرئيسية لشركاتهم القائمة في الصين.
قوة عاملة متنقلة
مع تزايد الطلب على المهارات الآسيوية، أصبح الآسيويون أنفسهم أكثر رغبة من السابق في السفر إلى الخارج بغرض تطوير خبراتهم المهنية.
وتوصلت شركة التوظيف العالمية “هايز أيشيا”، والتي أجرت مؤخراً استطلاعا للآراء في الدول الآسيوية الخمس التي تعمل فيها، إن سنغافورة تحتل الصدارة عالمياً في امتلاكها للقوة العاملة المتنقلة، فهناك 97 في المئة ممن شاركوا في الاستطلاع مستعدون للحصول على عمل في الخارج.
ومن بين هؤلاء، قال 85 في المئة إنهم سيغادرون أوطانهم بغرض الحصول على فرص عمل أفضل، ولتطوير أعمالهم، ولمعرفة أفضل.
وفي الصين، قال 96 في المئة ممن شاركوا في الاستطلاع إنهم مستعدون للمغادرة للحصول على عمل في الخارج، تليها هونغ كونغ بنسبة 94 في المئة، وماليزيا بنسبة 93 في المئة.
وتقول كريستين رايت، المدير العام لشركة “هايز أيشيا”: “يدرك المحترفون الباحثون عن عمل خارج أوطانهم أن أرباب العمل يثمنون بشكل متزايد العمالة المحلية من ذوي الخبرات العالمية، ومن أصحاب العقليات الدولية. فعندما يعود هؤلاء إلى أوطانهم، يمكنهم أن يقدموا مزيجاً من طريقة التفكير العالمية، والخبرة في معرفة كيف تدار الأعمال في الخارج، مقترنة بإدراك الثقافات المحلية”.
الأفضلية
يتفق مع هذا الرأي إيريك ياب، البالغ 42 عاماً، والذي درس الهندسة الكهربائية بجامعة ميسوري في ولاية كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية.
كان ياب قد خطط للعودة إلى وطنه، ماليزيا، بعد التخرج، لكن الدراسة لمدة عامٍ في اليابان دفعته لاتخاذ مسار مختلف، فقرر البقاء، وانضمّ فور تخرجه إلى قسم تقنية المعلومات لشركة غولدمان ساكس في طوكيو. والآن يعمل ياب لدى شركة “أمازون ويب سيرفيس″، ويقيم في اليابان منذ ذلك الحين.
ويتذكر قائلا: “وصلت إلى استنتاج مفاده أن أي خبرة عملية ستكون على الأرجح ذات أفضلية إذا اخترت العودة إلى ماليزيا في يوم ما، وخاصة مع الفرص المتوفرة لدى الشركات الدولية العاملة في ماليزيا. ورغم ذلك، لم أخطط أبداً للبقاء طيلة هذا الوقت في اليابان”.
ويضيف ياب، الذي يتحدث أربع لغات، أن المتحدثين بأكثر من لغة، ومن لديهم الحس الثقافي للعمل بكفاءة مع أشخاص من بلدان أخرى، أصبحوا مرغوبين الآن، ويتزايد الطلب عليهم أكثر من السابق.
ويتفق ماثيو تشابمان، رئيس شركة “تشابمان سي جي” مع فكرة أن من عملوا خارج بلدانهم لديهم الآن خبرات “مطلوبة جداً”، وخاصة في آسيا، حيث تتنامى اقتصاديات بلدانها بوتيرة أكثر تسارعاً مما في أوروبا، وأمريكا الشمالية.
ويقول تشابمان: “يوجد في أيامنا هذه تقدير أكثر بكثير للأسلوب الآسيوي في إنجاز الأمور، وللمديرين الكبار في العالم ممن قضوا بعض الوقت في آسيا. هؤلاء هم الذين سيحصلون على الترقيات. يوجد إقبال على الاستراتيجيات والأفكار النابعة من هذه المنطقة.”
وتتفق زميلته فوو سيو تشين مع هذا الرأي، فمنذ عودتها إلى سنغافورة قبل عامين ونصف، لاحظت أن شركات آسيوية أكثر تتحدث عن تطوير خبراتها المتوفرة لديها بدلاً من توظيف عمالة مغتربة.
وتوضح تشين، التي تعمل جنباً إلى جنب مع تشابمان، قائلة: “لا يتعلق الأمر بكون الآسيويين يعرفون عن أحوال آسيا بشكل أفضل، ولكن يتعلق بثقافة المؤسسات، والتنوع أيضاً. فعندما ترى الشركات سجل كبار المديرين لديها، فإنها تدرك بشكل متزايد حاجتها إلى تنويع أكثر في الفريق القيادي في آسيا”.
التفكير في النفقات
وتحدث هذه التغيرات في تركيبة المغتربين في وقت أصبحت فيه الشركات أكثر إدراكاً للتكاليف المرتبطة بوظائف المغتربين.
فقد جرى في حالات كثيرة تخفيض درجة الرحلات بالطائرة إلى “الوطن الأم” من درجة رجال الأعمال إلى الدرجة السياحية. كما أصبحت مخصصات السكن تشمل على الأكثر تأجير شقة بدلاً من تأجير منزل كامل.
أما بالنسبة للأطفال المصاحبين لأولياء أمورهم، فلم تعد الشركات تدفع لهم الرسوم الدراسية.
وتوصلت شركة “إي سيي أي”، خلال الاستطلاع الذي أجرته، إلى إن العديد من المغتربين الآسيويين كانوا في مهمات في الخارج لفترات قصيرة، وأن أربعة من كل عشرة أشخاص منهم سافروا دون اصطحاب عائلاتهم.
في دبي، يتوقع أفلي وعائلته أن يعودوا إلى وطنهم ماليزيا في نهاية المطاف. ولكن مهما تكن وجهتهم التالية، فمن غير المرجح أن يتخذوا قرارهم لأسباب مالية، أو بسبب الحوافز المصاحبة للوظيفة، بل لأسباب تتعلق بما يهمّ العائلة ويشغلها أكثر.
ويفكر أفلي مليّاً ويقول: “عندما تكبر في السن، تختلف أهدافك في الحياة. في السابق، كان المال هو العامل الوحيد، ولكن عندما يصبح لديك أطفال، فإن العامل الأول هو دراستهم، والأمور الدينية، والزوجة، هل هي سعيدة؟ إذا لم تكن كذلك، فلن تغادر مكانك”.
بي بي سي