علماء فى التاريخ الاسلامى : ابن الجزار القيرواني.. رائد طب الأطفال
خلال شهر رمضان المبارك، تحيي “التلغراف” ذكرى علماء اجلاء ، وترحل مع القارئ في عوالمهم الفسيحة، كاشفةً اللثام عن إنجازاتهم التي شكَّلت حلقة في مسيرة التطور، والتي قد اعترى بعضَها النسيان والظلم التاريخي أحياناً.
وحيث يحفل تاريخنا العريق بأعلام بارزين أسهموا في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وكانوا وما زالوا نجوماً مشرقة في سماء العلم، نذروا أنفسهم لخدمة البشرية كافة، وقدَّموا جهوداً مشرِّفة في مجالات شتى، منها الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، وغيرها من العلوم الإنسانية، وأثَّرت جهودهم في النهضة الأوروبية تأثيراً اعترف به الأوروبيون أنفسهم.
الطفل كائن بشري ذو روح ملائكية، حين تنظر في وجهه ترى معنى الطهارة والنقاء، يضحك غير مكترث لما يدور حوله، فهو لا يحمل في صدره هموم الكبار، ولا يبصر من الدنيا سوى بسمتها الصافية التي تشبه ملامح براءته، يلهو لاعباً كأنما ملك الكون بما فيه، ولكن حين يصيبه أذى لا يحسن التعبير عن نفسه إلا بلغة واحدة، هي لغة البكاء.
يُثبت تاريخ الطب البشري أن أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد القيرواني، الملقَّب بـ«ابن الجزار»، المتوفى سنة 369هـ، كان أول طبيب مسلم متخصص في طب الأطفال، إذ وضع كتابه «سياسة الصبيان وتدبيرهم»، الذي يُعدُّ من المراجع الأساسية في علاج أمراض الأطفال، لما يشتمل عليه من معارف علمية تتفق كثيراً مع طب الأطفال المعاصر.
فخلال اثنين وعشرين باباً، تحدَّث ابن الجزار في كتابه، الذي حقَّقه الحبيب الهيلة في تونس عام 1399هـ/1979م، عن تدبير الأطفال منذ خروجهم من أرحام أمهاتهم، وتغذيتهم ومضجعهم وغسلهم وتنظيفهم وإرضاعهم، وصفات اللبن وتركيبه.
والأمراض التي تعرض للصبيان من الرأس حتى القدم وعلاجها، وطبائع الصبيان وعاداتهم، مفسراً أسباب السعال عند الأطفال والإسهال ورطوبة الأذنين والتهاب السرَّة وورم اليافوخ وانتفاخ البطن ووجع خروج الأسنان وقروح الفم وغيرها، وموضحاً أهمية تعويد الطفل على العادات الحسنة التي إذا اتفقت وطبيعته استحال الإقلاع عنها.
وُلد ابن الجزار في القيروان ونشأ فيها، وتتلمذ على أبيه وعمه اللذين كانا طبيبين ماهرين، واستفاد من إسحاق بن سليمان الإسرائيلي الذي كان أحد الأطباء البارزين في عصره، ثم اشتغل بترجمة كتب الأطباء اليونانيين، مثل كتاب «المقالات الخمس» لديسقوريدس، وكتاب «المقالات الست في الأدوية المفردة» لجالينوس، واطلع على كتب العديد من علماء العرب والمسلمين في الطب والصيدلة..ومن ثم اشتهر وأضحت كتبه تُدرَّس لطلاب الطب.
ولم تقتصر جهوده على مجال طب الأطفال الذي انفرد بريادته، بل صنَّف الكثير من الكتب المتنوعة في الطب عموماً، ففي كتابه «زاد المسافر وقوت الحاضر»، الذي توجد منه نُسخ مخطوطة في باريس وألمانيا والهند.
وتُرجم إلى اللاتينية واليونانية والإيطالية، وحُكي أن نابليون بونابرت كان يحمله معه في رحلاته، تناول ابن الجزار البحث في معالجة أمراض الكبد والكلى والجلد والحميات، واصفاً تركيب بعض الأدوية وكيفية استعمالها.
ويقول ابن الجزار في مقدمة الكتاب: «إني ذكرت في كل باب منه ماهية العلة التي يُقصد إلى ذكرها ومداواتها، وأثبتُّ حدَّها المبين عن طبيعتها ومكانها، والسبب الفاعل لها، والبرهان الدالّ عليها»، مؤكداً بذلك أنه كتاب طبي موسوعي، ألَّفه ليكون دليلاً طبياً للمسافر إلى البلدان البعيدة التي لا طبيب فيها.
آمن ابن الجزار القيرواني برسالة الطب ودوره العظيم في المجتمع، معتقداً بأن الطبيب عليه أن ينفع كل طبقات الناس وفئاتهم، فمع اهتمامه بعلية القوم الذين صنَّف لهم كتابه «زاد المسافر»، اعتنى أيضاً بطبقة الفقراء الذين نالهم حسنُ خلقه الذي اكتسبه من بيئته الإسلامية، فوضع كتابه «طب الفقراء والمساكين»، الذي أرشد فيه من لا يملكون الطاقة المادية الكافية إلى طريقة التداوي بالعقاقير القليلة الثمن اليسيرة الكلفة، كما لم ينسَ فئة المسنِّين والمعمّرين الذين قدَّم لهم كتاباً طبياً خاصاً بهم.