مصطفى اللداوي يكتب : عملية القدس في ميزان الكسب والخسارة
تعالت بعض الأصوات العربية الرسمية تندد بعملية القدس التي نفذها أبناء جبارين الثلاثة على أبواب المسجد الأقصى وفي باحاته، والتي تبناها الشعب كله بكل فصائله وتنظيماته، وأحزابه وهيئاته، وجماعاته وأفراده، في الوطن والشتات، فكانت بحق باسم الشعب الفلسطيني كله وإليه مهداة، ولهذا كانت كبيرةً وعظيمةً، فلم تصغر بفصيل، ولم تتحجم بحزب، ولم تتضائل بتبني تنظيمٍ، ولم تتلون بأصفرَ ولا أحمر ولا أسود ولا أخضر، فكانت فوق الشعارات وأكبر من الرايات، خاصةً أنها جاءت بعد استفزاز، ووقعت بعد تحدي، في وقتٍ استفرد فيه العدو بأهلنا ومقدساتنا، وعاث فسادنا في أرضنا وممتلكاتنا، وما زال يعتدي كل يومٍ على القدس وينتهك حرمة الأقصى، وهو مطمئنٌ من ردة الفعل وعاقبة الجرم، وآمنٌ من غضبة العرب، وغير آبهٍ بانتفاضة الشعب وثورة الأهل.
إلا أن البعض لم ترق له هذه العملية، ولم تعجبه نتائجها، ولم ترضه تداعياتها، واستفزه وقوعها وأغضبه تأثيرها، وساءه ما أصاب جنود العدو وما لحق بحراسه وشرطته، ولم يخفوا امتعاضهم منها وغضبهم على منفذيها، وربما وصفوها في اتصالاتهم أو في أحاديثهم الخفية خلف الأبواب المغلقة بأنها عملية إرهابية، وأن الذين قاموا بها مجرمون متشددون متطرفون إرهابيون، ينبغي معاقبة ذويهم ومحاصرة مؤيديهم، والتضييق عليهم ومتابعتهم لئلا تتكرر عمليتهم، ويقلدهم في مثلها غيرهم، وقد بات من المؤكد أن بعضهم قد اتصل برئيس حكومة العدو معزياً ومتضامناً ومستنكراً، وستكشف الأيام القادمة عن اتصالاتهم، وستنشر وسائل الإعلام كلماتهم، إذ يفاخر العدو بمواقفهم، ويبدي إعجابه بجرأتهم، ولا يتردد في الإعلان عن أسمائهم وفضح أفعالهم.
يرى هؤلاء المارقون من ديننا، الغريبون عن تراثنا، المنبتون عن عقيدتنا، المخالفون لشرعنا، أن هذه العملية كانت سبباً في الغضبة الإسرائيلية، وأنها فتحت الأبواب على مصراعيها لسلسلةٍ من الإجراءات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، بعد أن استفزتهم العملية وأخرجتهم عن طورهم، وأجبرتهم على اللجوء إلى ما قاموا بها احترازاً وضماناً للأمن، وكأنهم بهذا يبررون للعدو ما قام به، ويشجعونه على المزيد منها إن شاء، إذ عنده من يؤيده، ولديه من يدافع عنه ويتفهم دوافعه، وكأنهم أيضاً يبرؤونه من جرائمه السابقة، وينفون عنه الاتهامات الموجهة إليه، ولا يرون أنه ينتهك حرمة الأقصى ويدنس المسرى ويهود القدس ويطرد سكانها، ويستبدل هويتها ويغير معالمها ويبدل أسماءها، ويسابق الزمن ليطهرها من غير مستوطنيه، لتكون هي عاصمتهم الأبدية والموحدة التي يحلمون بها قديماً، وعملوا من جلها كثيراً.
وقد ارتفع صوت هذا الفريق المستخذي المهين دون خجلٍ أو حياء، ولعله في ذلك يقدم أوراق اعتمادٍ للكيان الفرح بهم والمنتشي بمواقفهم، ويطمئن بتأييده وإعلان الولاء له على مستقبله، أو يمهد لما يروجون له من صفقة القرن، إذ أعيا هؤلاء معاداة العدو العلنية، وأتعبهم كثيراً إخفاء علاقاتهم السرية به، وغرامهم الشديد بحبه، وحرصهم الكبير عليه، وإحساسهم بالأمن والأمان بقربه، وطمأنينتهم إلى تحالفهم معه، وإحساسهم بالخوف إن تزعزع أمنه، أو اضطرب حاله، وقلق سكانه، وانشغل بنفسه عن محيطه.
قد يعترض البعض مستنكراً رفضنا للغة التي استخدمها بعض المسؤولين العرب في وصفهم للعملية، واعتراضهم على توقيتها ومكانها، متذرعاً باستنكار رئيس السلطة الفلسطينية نفسه، الذي أجرى اتصالاً مباشراً برئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، واستنكر العملية ودانها، فإذا كان المسؤول الفلسطيني الأول قد دان واستنكر، ورفض واعترض، فلا عيب على غيره، ولا استنكار لفعل لسواه، على قاعدة أنهم لن يكونوا ملكيين أكثر من الملك، ولعلهم يرون في هذا عدلاً وإنصافاً، ولكنهم ما علموا أن شعوبهم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين، وملكيين أكثر من الملك الفلسطيني، فهم يحبون القدس ويعشقون الأقصى أكثر من سكانه، ويتمنون تحريره وتطهيره، وزيارته والصلاة فيه أكثر من أصحابه وملاكه، ممن هم في القدس وحولها في الأرض المباركة، ولا يترددون في التضحية من أجله والاستشهاد في سبيله.
العدو ما كان ينتظر هذه العملية حتى ينفلت منه عقاله، وينطلق من قفصه كالوحش المفترس، أو يسفر بأفعاله عن حقيقته، ويكشف عن نواياه ومخططاته، إذ أن ما قام به كان معداً مسبقاً، ولكنه انتهز فرصة التخاذل والتخلي، والانكفاء والابتعاد لينفذ ما كان يحلم به، أما العملية التي تمت فقد كانت ذريعته للمباشرة، وساعته الرسمية للانطلاق، ذلك أنه فكر وقدر، وخطط وأعد، وحلم منذ زمنٍ أن يغير نظام المسجد الأقصى، ويجعل منه صورةً مشابهةً للحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، يقسمه مكانياً وزمانياً، ويتحكم فيه أمنياً وانضباطاً.
إنها ليست ردة فعلٍ إسرائيليةٍ غاضبةٍ على عملية القدس، وهي لست فورة غضبٍ ولا هي محاولة للتنفيس عن حالة الاحتقان، إنها مخطات معدة، وترتيبات سبق التحضير لها، وعلى من ظن غير ذلك أن يصحو من غفلته وينتبه، ومن اعتقد أن مقاومتنا هي السبب أن يعي ويفهم، ويصحح مفاهيمه ويعدل معاييره، ذلك أن عدونا هو المحتل لأرضنا، والغاصب لحقوقنا، وأن من حقنا أن نقاومه، ومن واجبنا أن نقاتله.
هؤلاء المستنكرون الآسفون على ما أصاب العدو ليسوا أكثرية وإن ارتفع صوتهم وعلا ضجيجهم، وعما قريب سيخمد صوتهم، وسيبتلعون ألسنتهم، وسيعضون أصابعهم ندماً، عندما يعلمون أن هذه المعركة إنما هي معركةٌ مقدسة، يخوضها العرب والمسلمون جميعاً قبل الفلسطينيين وإن كانوا هم في المقدمة والريادة، وأن أحداً لن يوقف مقاومتهم، أو يطفئ جذوتهم، ما لم يتطهر الأقصى وتتحرر القدس وكل فلسطين، فهذا وعد الله لنا، وهو هدفنا المشروع وغايتنا المعلنة، التي لن يصدنا عنها تخاذل البعض، وانكفاء أولياء الأمر، وما قد قام به شهداؤنا إنما هو تعبيرٌ عن إرادتنا، وانتصارٌ لعقيدنا، وغضبةٌ من أجل ديننا، وهبةٌ في سبيل مقدساتنا، يرضاها الله لنا، ويفرح بها نبينا، وتفخر بها أمتنا، ولا يندم عليها شعبنا.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
اقرأ للكاتب :
تساؤلاتٌ حول حقيقة التفاهمات المصرية مع حماس