خان الخليلى وذكريات كسوة الكعبة

أقمشة سوداء منقوشة بآيات قرآنية بلون ذهبي، يصل عمر عدد منها إلى أكثر من نصف قرن، تغطي جدران ورشة في أحد أزقة حي خان الخليلي الشهير وسط العاصمة المصرية القاهرة.

وداخل الورشة، يجلس أحمد شوقي القصابجي ممسكا بإبرة وخيط، ليوشح قطعة من القماش الأسود بأدعية أعادته إلى سنوات مضت قضاها والده وجده في صناعة كسوة الكعبة المكرمة، ضمن نشاط كانت تعرف به مصر سابقا، قبل أن يتحول إلى فن “السيرما” أو الكتابة على القماش الذي تشتهر به البلاد.

كسوة الكعبة بأنامل مصرية

في حي خان الخليلي المعروف بمعالمه التاريخية وشوارعه المزدحمة، يسترجع القصابجي (وهو رجل خمسيني) عهدا قريبا كانت خلاله كسوة الكعبة قبلة المسلمين تصنع بأنامل مصرية، وتوشح بالخيوط الفضية والذهبية، لترسم آيات قرآنية كريمة بخطوط مثيرة للإعجاب.

القصابجي قال إن هذا اللقب لا يعود لعائلته، لكنها عرفت به لعملها سنوات طويلة في صناعة كسوة الكعبة من خيط القصب (خيوط فضية أو ذهبية)، قبل أن تتولى السعودية صناعتها، وتتجه العائلة بعد ذلك لعمل أغلبه مرتبط بنقش وتطريز الآيات القرآنية.

عرفت مصر بداية تطريز وإرسال كسوة الكعبة الشريفة من مصر في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي في القرن الـ 12 الميلادي.

واستمر هذا التقليد في العصرين المملوكي والعثماني بمصر، وصولا إلى القرن العشرين، حيث كانت تنقل الكسوة عبر البحر في احتفالات مهيبة.

إلا أن التقليد توقف تماما عام 1962، حين أنشات السعودية مصنعا تولى مهمة صناعة كسوة الكعبة، وفق روايات تاريخية وتقارير صحفية.

وارتبط بصناعة كسوة الكعبة فن التطريز بخيوط الذهب والفضة المعدنية الذي يعرف بـ “السيرما”، والذي نشط بعد توقف إرسال الكسوة بمصر، بالتطريز على الأقمشة، سواء برسم أشكال أو كتابة أدعية وآيات.

الأحفاد على خطى الأجداد

بنبرة هادئة، يسترجع القصابجي الحفيد ذكريات جده في مهنة صناعة كسوة الكعبة، بتفاصيلها التي نقلها إليه الأخير.

وفي حديثه ، قال إن جده يعد من أقدم من عملوا بصناعة الكسوة، وكان يسكن بأحد شوارع خان الخليلي، وينتقل بحصان يمتلكه إلى دار صناعة كسوة الكعبة بحي الجمالية أحد أحياء العاصمة.

وأضاف مبتسما وهو يتحدث عن جده الذي قيل إنه كان يحمل عصا كبيرة يعاقب بها كل عامل يخطئ في عمله في صناعة كسوة الكعبة: “أفتخر بعمل جدي وأبي الذي استمر فيه أيضا لنحو 5 سنوات، فلقد كتبوا التاريخ”.

شوكت حفيد ثان للجد القصابجي، يتذكر بدوره في حديثه ، ما سمعه عن خطوات صناعة كسوة الكعبة قائلا: “الأمر كان متعبا ويستغرق وقتا طويلا جدا”.

وأضاف: “صناعة الكسوة كانت تستمر على مدار العام، وتستخدم فيها خيوط من الذهب والفضة والحرير، ويحصل العامل فيها على جنيهات قليلة، غير أن قيمة الجنيه كانت وقتها مرتفعة للغاية”.

وبحسب تقرير للوكالة الرسمية السعودية (واس) في 2013، تبلغ كلفة كسوة الكعبة نحو 22 مليون ريال (ما يعادل نحو 6 ملايين دولار).

ويستخدم في صناعتها نحو 700 كغم من الحرير الخام، و120 كغم من أسلاك الفضة والذهب، فيما يعمل في مصنع كسوة الكعبة المشرفة أكثر من 240 صانعا وإداريا.

وتقليد الكسوة وفق المصدر ذاته “يتم مع بداية شهر ذي الحجة من كل عام، حيث يتم تسليم كبير سدنة الكعبة المشرفة كسوة الكعبة الجديدة، في مراسم تليق بهذا الحدث الإسلامي الرفيع، ليتم في فجر يوم التاسع من شهر ذي الحجة إنزال الكسوة القديمة للكعبة، وإلباسها الجديدة، على أن تعود الكسوة القديمة إلى مستودع المصنع للاحتفاظ بها”.

سيرما الكسوة

إثر تولي المملكة صناعة الكسوة عام 1962، اتجه كثيرون لعمل مشابه، ومنهم شوقي القصابجي الذي ركز عمله في ورشته بشارع خان الخليلي، على تطريز القماش بالآيات القرآنية والأدعية، وهو فن عرف مؤخرا بـ “السيرما”، لكن قديما كان يطلق عليه “القصابجي” أو “القصبجية”.

وبحسب شوقي، يقوم خطاط بكتابة الآية المراد نقشها على ورقة بمساحة القماش، قبل أن يتم ثقب مكان الحروف، وطباعتها عبر بودرة بيضاء اللون على قطعة القماش، ثم وضع ورق مقوى مماثل للحروف، وبدء غزل تلك الحروف بالخيط.

وتابع أن “عملنا يحتاج تركيزا ودقة عالية كي نخرج بمنتج جيد قد نستغرق أياما للحصول عليه، حفاظا على سمعتنا التي ورثناها عن جدي”.

وبخصوص أبرز عملاء هذا الفن المرتبط قديما بتطريز كسوة الكعبة، يقول: “لدينا عملاء من دول كثيرة، أبرزها السعودية وإيطاليا”.

وخان الخليلي هو حي تاريخي في مصر أنشئ عام 1400، ويزوره سياح عرب وأجانب للتعرف على معالمه الأثرية.

وفي هذا الشأن، أوضحت الأكاديمية المصرية هبة نايل بركات، وهي أستاذة تاريخ الفن والعمارة الإسلامية، أن “السيرما” تعد صناعة يدوية تاريخية لها مكانة خاصة في الوطن العربي، وكان لها الشرف أن يزين بها كسوة الكعبة الشريفة على مر العصور.

وأشارت هبة في تصريحات سابقة نقلتها الوكالة الرسمية المصرية، إلى أن حرفيي “السيرما” كانوا يفتخرون بعملهم الذي يزين بيت الله الحرام.

ووفق الخبيرة، فإن “السيرما تعتمد كليا على الدقة وصبر الحرفي المتمرس، فهو يرسم بدقة التصاميم ويكونها على كرتون مقوى في شكل لوحة قبل بدء التطريز”.

وفي ما يتعلق بأبرز الموضوعات الفنية التي يعبر عنها فن السيرما، ذكرت أن الفنان يهتم بنسخ الآيات القرآنية، وأبيات كتابية كالشعر، والأحاديث، ونموذج أسماء الله الحسنى.

ولفتت إلى أن هذه الصناعة اليدوية تألقت في العصر العثماني بمصر وإسطنبول، حيث أصبحت تزين أزياء ملكية وفساتين النخبة، كما كانت تستخدم في ملابس وجداريات الكنائس القبطية في مصر.

شكرا للتعليق على الموضوع