هل أبناء جيل الألفية “أكثر نرجسية” من غيرهم؟

أثار تزايد إقبال أبناء جيل الألفية على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي جدلا واسعا بين علماء النفس، ففي حين يرى بعضهم أن هذا الجيل “محب لذاته” ويضع مصلحته الفردية في المقدمة، يرى بعضهم الآخر أنه “منكر لذاته” ويغلّب مصلحة الجماعة.

كنت منهمكا في العمل في أحد المقاهي هذا الصباح، وسمعت شابة تجلس على الطاولة المجاورة ظلت تتحدث بكل حماسة مع زميلتها الأكبر سنا مدة ساعة كاملة عن نفسها، وآمالها، وتطلعاتها الوظيفية، وعلاقتها العاطفية، ومنزلها، حتى شعرت أن هذه الفتاة ترى نفسها محور الكون، وأن أحلامها بلا شك في غاية الأهمية والتشويق.

لكن هل ينسحب هذا الوصف على جيل الشباب في عصرنا الحالي أو “أبناء جيل الألفية” الذين ولدوا بعد عام 1980؟ وهل مهدت وسائل التواصل الاجتماعي – بما تتيحه من فرص للترويج للذات، والانشغال بالذات، إلى جانب المجتمع الذي ربما اهتم بتعزيز الثقة بالنفس أكثر من اهتمامه بالتعليم- لظهور جيل من الشباب أكثر أنانية ونرجسية من الأجيال السابقة؟

انقسمت آراء علماء النفس في هذا الصدد، فبينما يرى فريق منهم أن هناك كثيرا من الشواهد التي تثبت أن الشباب أصبحوا يتمحورون حول ذواتهم، فإن بعضهم الآخر يعارض بشدة هذا الرأي، ويقول إن العكس هو الصحيح.

كما ظهرت أدلة مبشرة تثبت أن سماتنا الشخصية تتغير إلى الأفضل مع مرور الوقت، بالطريقة نفسها التي يزداد بها معدل الذكاء من جيل لآخر.

وأمضت جين توينج، أستاذة علم النفس بجامعة سان دييغو، بولاية كاليفورنيا، 15 عاما في دراسة هذا التغير في شخصيات الشباب، وتعد من أشد المؤيدين للرأي القائل إن الجيل الحالي من الشباب أصبح أكثر أنانية وانشغالا بالذات من الأجيال السابقة.

وترى توينج أن إنشغال الشباب بذواتهم هو أحد انعكاسات تغير الاتجاهات الفكرية للمجتمع، ولا سيما صعود النزعة الفردية في العقود القليلة الأخيرة، إذ يقال، على سبيل المثال، إن الآباء والمجتمع ككل لا يهتمون بواجبات الشباب حيال المجتمع الذي يعيشون فيه بقدر ما يهتمون بإنجازاتهم الفردية.

وثمة نظرية أخرى تفسر زيادة حب الذات بين الشباب، يطلق عليها “حركة الاعتداد بالنفس″، وتشير هذه النظرية إلى أن ضعف الثقة بالنفس هو مصدر الكثير من المشاكل التي يواجهها المجتمع، من الإدمان إلى العنف.

لكن دراسات لا حصر لها دحضت هذه النظرية، منها كتاب “50 أسطورة في علم النفس الشعبي”. إلا أن هذه الحركة كان لها الفضل في الإحجام عن إبداء الملاحظات والتعليقات السلبية، مثل الدرجات المنخفضة، للشباب ولا سيما في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، خشية إفقادهم الثقة في أنفسهم، وتشجيع حب الذات في المقابل، وزرع الشعور بالتميز عن الأخرين.

وصفت جيس سينغال في إحدى المقالات بمجلة “نيويورك ماغازين”، مدى انتشار حركة تعزيز الثقة بالنفس في المدارس الأمريكية، من خلال ممارسات بسيطة مثل: “كرة كوش”، وهي كرة مطاطية ملونة، وتقول: “يرمي الطفل الكرة لطفل آخر ثم يثني عليه، كأن يقول ‘يعجبني قميصك’، ثم يرميها لآخر ويثني عليه، ويقول ‘أنت لاعب ماهر’، وسرعان ما ينتشر هذا الشعور الإيجابي في الغرفة مع انتقال الكرة من طفل لأخر”.

وبالنظر إلى هذه الممارسات والاتجاهات، ليس من الغريب أن يتعلم الشباب في عصرنا الحالي أن ينظروا لأنفسهم على أنهم نوابغ ويلتمسون دوما عبارات الثناء والإعجاب من الآخرين.

واستندت أبحاث جين توينج إلى “اختبار الشخصية النرجسية”، وهو عبارة عن استبيان تطلب فيه من المشاركين الاختيار بين 40 زوج من العبارات التي تعبر عنهم، إحداهما تغلب عليها نبرة الأنانية مثل “سأحقق نجاحا باهرا”، والأخرى معتادة مثل “لا أهتم كثيرا بالنجاح”.

وتوصلت نتائج دراسات توينج إلى أن طلاب الجامعات الأمريكية يحرزون درجات أعلى في تقييم النرجسية مع تعاقب الأجيال، فقد اكتشفت على سبيل المثال، أن ثلثي الطلاب في عام 2009 أحرزوا نقاطا في مقياس النرجسية أعلى من متوسط النقاط التي سجلها نظرائهم في عام 1982.

وتقول توينج: “حتى هذه اللحظة، جميع الأدلة تؤيد الرأي القائل إن جيل الشباب اليوم من مواليد 1981 وما بعدها، يتمحور حول ذاته” بالمقارنة على الأقل بالأجيال التي تسبقه.

ولكن هذا الرأي عارضه البعض، مثل جيفري أرنت، أستاذ علم النفس بجامعة كلارك، بمدينة ويرشستر، بولاية ماساتشوستس، الذي يرى أن طلاب الجامعات الأمريكية لا يمثلون الشباب ككل، ويشكك في صحة اختبار الشخصية النرجسية كمعيار يعول عليه لقياس النرجسية.

فبعض الإجابات قد تشير أحيانا إلى نوع محمود من الثقة بالنفس، مثل تفضيل إجابة “أنا واثق من نفسي” على عبارة “أتمنى أن أكون أكثر ثقة بالنفس”.

ويقول أرنت إن آراءه تقف على النقيض من آراء توينج، مشيرا إلى أن الشباب الآن أكثر إقبالا على التطوع وأكثر تقبلا للتنوع العرقي والثقافي، ويقول إن البالغين اليوم ليسوا أقل أنانية فحسب، بل أيضا “جيل غاية في الكرم، ويحمل وعودا مبشرة للنهوض بالعالم”.

وفي الواقع، هناك الكثير من الأدلة التي تؤيد ذلك، مثل الدراسة التي نشرت في دورية “علم النفس″، إذ قارن برنت روبرتس الخبير بعلم نفس الشخصية وزملاؤه نتائج اختبار للنرجسية شارك فيه 50 ألف طالب، في ثلاث جامعات وفي ثلاث فترات زمنية مختلفة: في التسعينيات من القرن الماضي، ومطلع القرن الحادي والعشرين، ومنذ عام 2010 وما يليه.

واهتم فريق روبرتس أيضا بخصال أخرى، بخلاف النرجسية، مثل الغرور والشعور بالأحقية في المعاملة المميزة والريادة.

وذكر فريق روبرتس أيضا أن تأويل الطلاب للعبارات في الاختبار قد يختلف من جيل لآخر، ولكنهم توصلوا في النهاية إلى أن معدل النرجسية بين الشباب ينخفض منذ تسعينيات القرن الماضي.

وأضاف روبرتس في بيان صحفي أن النرجسية التي تظهر في مرحلة الشباب تتلاشى مع تقدم العمر. ويقول: “إن ذاكراتنا لا تسعفنا، ولهذا لا نتذكر فقط أننا كنا لا نهتم إلا بأنفسنا في نفس المرحلة العمرية”.

وهذه النتائج تتطابق مع نتائج دراسة حديثة أخرى نشرت في نيوزيلندا مؤخرا، ولم تعثر على أي دليل يثبت انتشار الشعور بالأحقية في التميز عن الآخرين، وهو أحد جوانب النرجسية، بين أبناء جيل الألفية، ونوهت الدراسة إلى أن هذا الشعور يقل كلما تقدم العمر، ولا علاقة له بجيل دون الأخر.

وفي المقابل، وجدت توينج وزملاؤها من الأدلة ما لا يدع مجالا للشك في أن معدل النرجسية يتزايد بين الشباب.

ومن بين هذه الأدلة زيادة عدد الكلمات التي تدل على التمركز حول الذات في الأغاني الحديثة التي تحظى بشعبية مقارنة بالأغاني التي حققت نجاحا كبيرا في الثمانينيات، فضلا عن زيادة استخدام الكلمات والعبارات التي تدل على التميز والاستقلال عن الآخرين في الكتب، مثل “أنا متميز″، منذ عام 1960.

واحتدم هذا الجدل بين الباحثين في الأونة الأخيرة على خلفية زيادة الإقبال على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والهوس بالتقاط الصور الذاتية والحرص الدائم على مشاركة أفكارك ومشاعرك وكل ما تفعله في حياتك مع الغير لحظة بلحظة، ما دعا الباحثين للاستنتاج أن التطور التكنولوجي والتغير الثقافي قد أسهما في صعود النرجسية والغرور.

وربطت توينج بالطبع بين وسائل التواصل الاجتماعي والنرجسية، وفي إحدى مقالاتها المنشورة في جريدة “نيويورك تايمز″، أطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي “وقود النرجسية”، ولكنها أقرت بعدم وجود أدلة كافية تثبت ذلك.

صحيح أن البيانات التراكمية تثبت أن النرجسيين أميل إلى نشر صور ذاتية من غيرهم، ولكن هذا لا يعني أن نشر الصور الذاتية يدل على أنك نرجسي. وفي الواقع، تشير بعض الأدلة إلى أنه كلما زادت الصفات المحمودة لدى المرء، كحسن الظن بالآخرين، والود وسماحة الخلق، زاد نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن رغم كل هذا الجدل، هل توجد أدلة تشير إلى أن شخصياتنا تتغير إلى الأفضل؟

في الواقع، يؤكد العلماء منذ سنوات طوال أن معدل ذكاء البشر يزداد بنحو ثلاث درجات من جيل لآخر.

ويشار إلى ظاهرة ارتفاع درجات اختبارات الذكاء من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا باسم “تأثير فلين” نسبة إلى جيمس فلين، باحث أكاديمي من نيوزيلندا، وهو أول من توصل إلى هذه الفكرة.

ويعزى هذا الارتفاع إلى أسباب عديدة بدءا من تراجع الإصابات بالأمراض المعدية وحتى تحسن جودة التعليم في المدارس. ويبحث العلماء عن تأثير مشابه قد يكون سببا في تشكيل سماتنا الشخصية.

وهذا ما توصل إليه فريق من الباحثين، بقيادة ماركوس جوكيلا من جامعة هلسنكي، في دراسة فنلندية نشرت العام الحالي، إذ حلل الفريق بيانات اختبار الشخصية جمعت من نحو نصف مليون مجند من مواليد عام 1962 وحتى عام 1972، كان عمرهم 18 أو 19 عاما وقتذاك.

وتوصل الفريق إلى أن الدرجات التي أحرزها المجندون في تقييم الشخصية المنفتحة وتقييم الالتزام بالمبادئ والواجبات ترتفع مع تعاقب الأجيال، وهذا يعني أنهم يزدادون إقبالا على مخالطة الآخرين، وحرصا على تنفيذ الواجبات.

والغريب أنهم وجدوا أدلة أيضا تثبت ارتفاع معدل الثقة بالنفس، وهذه النتائج تؤيد البحث الذي أجري حول زيادة النرجسية بين الشباب، إذا كانت الثقة بالنفس زائدة عن الحد. غير أن الباحثين الفنلديون لم يعلقوا على هذا الأمر.

يبدو أن جيل الشباب الآن أصبح أكثر ثقة واطمئنانا من الأجيال السابقة، ولكن ترحيبك بهذه الظاهرة أو تخوفك منها، سيكشف عن شخصيتك أنت أكثر مما يكشف عن شخصية أبناء هذا الجيل، بحسب ما نقلت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.

شكرا للتعليق على الموضوع