أنا المسيح الأسمر”قصة قصيرة”

(١)

في اليوم الذي ولد فيه المسيح كانت هناك سيدة على بعد آلاف الأميال تقود قطيعاً من الماشية، وفي يدها عقد من الخرزات … خرزات بيضاء، خرزة تتيمّم بخرزة حتى ينتهى فتيل الصلاة في منتصف بطنها الممتلئ نعمة …

 (٢)

في عام ٢٠١٧م وفي أزقة الصفيح داخل حي عشوائي الذي يحتشد فيه الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين بحسب تصنيفهم، كان الطفل الأسمر يجلس متربعاً أمام عرش الصفيح، المنزل الذي أصبح له عرشاً..

“هذا منزلنا، آليس كذلك؟”

كان أول سؤال تفجر من فمه حين اقتحم جسده الصغير منزله الذي بنته رحمة الصفيح، لكن ثغره المندهش اتجه نحو الباب، ثم فجر خبراً آخر:

“والطين كثير هنا!”

كان ذلك قبل عام، أما الآن فالصغير يجلس متربعاً ليكمل تمثال الطين الذي انشغل ببنائه منذ شهر لكن هذه المرة أمام باب منزله، بعد أن انتهى من بناء عشرات التماثيل المماثلة أمام أبواب الصفيح….

كان تمثالاً لرجل يشبه في هيئته رجال الصفيح في مسوحهم التي يرتدونها وتقاسيم البؤس في وجوههم، يشير بيمينه المتجهة راحتها نحو الباب لكي “يبارك المنزل” وفقاً لتفسير الصغير بينما تمسك اليد اليسرى للتمثال بيد طفل لم يكتمل بناؤه بعد، لأنه في كل مرة ينتهي من صنع وجهه يعود ويمسح تفاصيله بحثاً عن تفاصيل جديدة أو وجه جديد لا يشبه وجوه أطفال الصفيح…

 (٣)

في ليلة ميلاد المسيح، وعلى بعد آلاف الأميال وحين لامس المسباح بطنها المتكور بنبوءة جديدة، صرخت سيدة المسباح معلنة مخاض جديد في هذا الكوكب.

 (٤)

اقتحمت عربات أمنية الحي العشوائي، ثم ترجل الجنود ركضاً نحو الأزقة المتلاحمة لاعتقال أكبر عدد ممكن ممن يسمون “بمخالفي أنظمة الهجرة” … كان الأمر قد تم سريعاً ودون الاضطرار إلى إراقة الدماء …وبينما كان أحد الجنود يركض عبر أحد الأزقة وهو يقتاد شخصاً مقيداً أمامه، توقف فجأة  حين انتبه إلى طفل يجلس متربعاً وبسكون بداخل أكوام الطين التي جمعها أمام باب منزله …

وحين تجاوزه انتبه إلى أن الطفل ينظر إليه وبسكون تام … توقفت القدمان عن الركض بعد أن كانتا قد تجاوزتا طفل الطين، ثم استدارتا باتجاهه … وحين كان الصدر الذي تتعارك بداخله الاسئلة عائداً إلى الطفل سمع صوت طلقة، ثم شاهد جرماً صغيراً يتبعه دخان أسود اللون يتجه نحو قلبه تماما في سرعة لا يمكن للعين البشرية رصدها  … فتهاوى الجسد العسكري نحو الأرض…

 (٥)

قبل شهرين على سقوط ذلك الجندي، كانت القوات الأمنية قد اقتحمت حي الصفيح واعتقلت عددا ممن تسميهم “بالمهاجرين غير الشرعيين”، وكان من بين من اعتقلوا

“طفل الطين” ثم نقلوا بحافلات كبيرة ذات ستائر مسدلة على نوافذها …

كان الصغير قد أزاح الستار واندفع بوجهه نحو مشاهدة العالم خارج “أزقة الصفيح” رغم زجر الجنود للمعتقلين عند فعل ذلك…

كان الوجه الصغير مندفعاً بعينيه المتقدتين نحو معالم العالم الآخر التي تبرز أمام النافذة بتتابع بطيء: محلات الملابس الرخيصة، مخبز للطبقة المتوسطة، حائط احتشدت فيه كتابات ورموز لا تدركها معرفته، ثم سور مغلق تعلوه نخيل باسقة، ثم انعطفت الأرض به يساراً فسلك بصره تتابعاً سريعاً نحو طريق يلتهم كامل بصره غير أنه انتبه إلى سرعة تحرك الحافلة، وقبل أن يستعيد بصره إلى داخل الحافلة، انتبه إلى حافلة أخرى تسير بمحاذاتهم، فأخذت عيناه ترصدان وجوه الجنود داخل الحافلة: وجه ضاحك، وآخر مجهد، وآخر تتحرك تقاسيم وجهه بانفعال متناقض بسبب شيء أسود يثبته بيده على أذنه اليسرى.. ثم حاذاه وجه منكس نحو الأسفل تعلو جبينه علامات مرض لا شفاء منه … الصغير يعرف قسمات الوجوه المنحدرة نحو الاحتضار دون أن تعلم … كان يشهدها في أزقة الصفيح ، ثم يمد يمينه الصغيرة ف …

 (٧)

في ليلة ميلاد المسيح، كان المسباح قد تقلد عنق “الوافد” الجديد إلى هذا العالم..

“إنه ساكن تماماً ولم يصرخ أبداً”

هذا ما قالته إحداهن، ثم أضافت:

“متى سيعلم بأن أمه قد غادرت الحياة قبل أن تراه ولم تترك له إلا قلادة الصلاة هذه؟”

“لعلها تباركه”

هذا ما قالته أخرى وهي تتحسس حبات الخرز في عنق الوافد الجديد..

 (٨)

وفي الحافلة التي تقل “الوافدين غير الشرعيين” رفع الصغير يمينه موجهاً راحتها نحو هدف بعينه داخل حافلة موازية تقل الجنود الذين شاركوا في مهمة اعتقال “المهاجرين” … وفي الحافلة الأخرى انتفض جسد الجندي المريض، ثم انتفض ثانية، فثالة … وبعدها شعر بأن عينان تتربصان به، فتوجه يساراً ثم عبر بصره ليجد راحة كف صغيرة تشير باتجاهه، وحين أمعن النظر شاهد صوراً ثابتة، ثم متحركة نقلته إلى عالم آخر بل سافرت به عبر الزمن ليشهد ويدون حكاية مسباح توارثته الأجيال …

 (٩)

وفي حي الصفيح وحين هوى “الجسد العسكري” أرضاً، كان طفل الطين قد تلقف رأسه قبل أن يرتطم بالأرض …

كان المشهد في عيني “العسكري” قد توقف في هوة سوداء ساحقة، كان ذلك تماماً كالحلم الذي يراوده منذ أيام حين يرى أنه يسقط من سريره لكنه لا يرتطم بالأرض أبداً، فيعتريه رعب الضياع في ثقب أسود لا ينتهي فيصرخ فزعاً ..

هذا ما حدث تماماً بعد الهوة السوداء الساحقة التي بعثته إليها الرصاصة التي كانت تستهدف صدره، إذ دوت صرخة رعب داخل أزقة الصفيح، ثم تبعها نور داهم عيني الجندي، الذي بدأ يتحقق من الصورة الأخيرة قبل موته الذي كان يتوقعه: وجه أسمر ينظر إليه بسكينه والدماء تسيل من فمه:

هل أنت؟ أنت الطفل الذي رأيته في الحافلة؟ مالذي حدث؟

مالذي حدث؟

ولماذا لا أتألم؟

ماهذه الدماء التي تسيل من فمك؟

هل أصبت؟

هل حقاً أنت “المسيح”؟

ماهو “المسيح” الذي تقصده؟

وقبل أن يجد الجندي إجابة لعشرات الاسئلة التي تمطر رأسه، كان رأس طفل الطين قد هوى على صدره ..

 (١٠)

وفي حافلة الجنود، وبعد ان انتفض جسد الجندي عدة مرات، ثم استقر نظره في راحة يمين طفل الطين، شاهد مايشبه الحيوات المتتابعة لبشر يخلف بعضهم بعضاً يحملون “مسباحاً” بخرزات بيضاء، يتنسكون به في الجبال، ثم الأودية، ثم السهول، ثم القرى، حتى شاهد امرأة مسنة تحتضر في أحد أحياء الصفيح  تسلم “إرث الصلاة” وتضعه بيد طفل أسمر صغير … وحين انتشل الجندي بصره من راحة الطفل ذات المشاهد المتتابعة وجد أن الوجه الذي أمامه هو وجه حامل لواء الإرث والصلاة ..

من أنت بحق الله؟

سأله الجندي بعد أن وجد طريقة للاحتيال على الجنود واخراج الطفل من الحافلة …

كان الطفل الذي يرتدي مسوحاً بالية ويتقدمه الطريق نحو عالم الصفيح قد توقف فجأة، وأشار إليه بالتوقف عند هذا الحد كي لا يعرض حياته للخطر ..

“لكن لم لا تخبرني من أنت؟”

“وكيف شفيتني مما كان بي”؟

“أنت من يصنع التماثيل التي نجدها كل مرة أليس كذلك؟”

توقف الطفل فجأة، ثم التفت نحو الجندي، ومد يده نحوه، ثم بسط راحة يمينه تجاهه ليشاهد نفسه وهو في مداهمة يقتاد مهاجراً … ثم يشاهد الجندي طفلاً يصنع تمثالاً يمد يده نحو باب لكومة من الصفيح، فانتزع صوت رصاصة انطلقت من حي الغضب انتباهه فشاهدها تدمر قوانين الزمن متجهة نحو قلبه تماما، الذي خفق حين شاهد يمين التمثال تتحرك نحو مصدر الرصاصة فتغير مسارها نحو قلب طفل الطين الذي شاهده يتلقف الرصاصة لكنه لم يأبه بها بل يركض نحوه ليتلقف رأسه بيده فيضعه على ساقين صغيرتين امتدتا  نحو تمثال الطين الذي يمسك بيده اليسرى طفلاً بوجه ممسوح لا تفاصيل له… تأمل التمثال الصغير فشاهد الملامح تتخلٓق في وجهه لتطابق وجه طفل الطين… شاهد فم التمثال الطفل يتحرك ثم يجيب سؤاله:

أنا المسيح الأسمر

وبعد أن قال التمثال الصغير ذلك، انفصلت يده عن التمثال الكبير الذي هوى أرضا… ثم طاف التمثال الصغير بالأبواب يواسي أسر المعتقلين ويبارك الأبواب، ويصلي من أجل ما أسماه “سلام الوافدين إلى هذا الكوكب .

فيصل الهذلي - قاص سعودي
فيصل الهذلي – قاص سعودي

 اقرأ للكاتب : 

الباص”قصة قصيرة”

شكرا للتعليق على الموضوع