محمد المخزنجي يكتب : كان ميدانًا سماويًا على الأرض
من ذكريات كتابات ثورة 25 يناير
الميدان الزاخر بذلك الحشد المليونى كان ميدانا سماويا على الأرض. فتسامى الحالة الثورية أحال المُحتشدين فى ساحته إلى كائنات مرهفة رهافة فوق بشرية. رهافة خارقة تجعل كل المتحركين فى هذا الميدان يحترم كل منهم الحيز الشخصى للآخرين وبحساسية كمبيوترات حيَّة وحييَّة مذهلة الدقة. مئات الآلاف محشورون فى ميدان واحد، ومع ذلك يراعى كل منهم الآخر بشكل لاإرادى عجيب، فكلٌّ يوسع للآخر حتى يمر دون أن يمسه، خاصة لو كان من يمر أنثى.
رحت أفكر فى ضوء هذا الاكتشاف لو أنه أمكن تصوير حركة المحتشدين فى الميدان بطريقة رقمية تحلل حركة كل فرد كنقطة. نقطة تدور أو تتقدم أو تنعطف متناغمة مع دوران أو تقدم أو انعطاف كل نقطة فى الجوار، لتبينا أعجوبة من أعاجيب الحس البشرى حين تساميه. وهل كانت تلك الأيام الثمانية عشر فى ميدان يناير إلا نوعا من التسامى؟ لكن ما هو السر وراء الارتقاء البشرى فى هذه الحالة؟
لم يكن المحتشدون فى الميدان وقفاً على طبقة واحدة أو طيف واحد من المصريين. لا على نسق تعليمى أو ثقافى أو حضارى واحد، فكل مصر كانت هناك. أبناء وبنات الأحياء الموصوفة بأنها راقية كالمهندسين والزمالك وجاردن سيتى والزمالك ومصر الجديدة والمعادى، وبنات وأبناء الأحياء الشعبية كالسيدة والحسين وقلعة الكبش وبولاق وشبرا والدرب الأحمر، كما كان هناك أبناء المناطق العشوائية وبعض أبناء قرى الجيزة والقليوبية اللصيقة بالعاصمة، إضافة للقادمين من مدن وقرى الدلتا والصعيد. الملامح وأنماط الثياب وتسريحات الشعر والأحجبة وحتى النُّقُب والأسدلة، كلها كانت تنطق بالأصول الطبقية المختلفة لمئات آلاف المحتشدين فى الميدان يهتفون ويشدون بأغانى الثورة.
شىء مشترك كان يجمع بينهم، حرص على التهذيب والنظافة وتقدير الآخرين والاعتزاز بالذات. هو ذاك: الاعتزاز بالذات، الشعور الشخصى لدى كل إنسان بكيانه المتفرد والمفعم بالكرامة، وفى الوقت نفسه الشعور بتفرد وكرامة الآخرين من حوله، ثم شعور الكل فى واحد والواحد فى الكل، منظومة كاملة متناغمة فى معزوفة شاملة من الفرح برغم الشدة وقلق الترقب، ابتهاج إنسانى لحشود تشعر الآن أنها الأقوى، وهى تستعيد كرامتها من حفنة فى الحكم كانوا يتصرفون وكأن هذه الملايين كلها لا أحد. استباحة. هذه هى الكلمة الواحدة التى يمكن أن تندرج تحتها كل ممارسات السلطة التى انفجرت التظاهرات فى وجهها وجعلتها تتراجع، بينما الحشود تتمدد وتهدر مثل فيضان جارف، تعلن «نحن هنا»، وتشعر بالبهجة فى كينونتها المُستعادة، ومن هذه البهجة تتوالد عروض تلقائية مزهوة بالفرح. مسرح حى ومتحرك وسط زحام الميدان الثائر كان يُقدِّم مشاهده مع كل خطوة نخطوها.
نتابع ببهجة واندهاش ما نشاهده، ونتبادل البهجة والدهشة بملامحنا وإيماءاتنا مع الآخرين. لم يعودوا آخرين. صاروا نحن. كلنا نحن. هذا شاب طال شعره وتراكم مثل عش كبير يسكن فيه وجهه الأسمر دقيق الملامح المرحة، علق فى رقبته لوحة ورقية تتأرجح على صدره مكتوبا فيها «امشى بقى عايز أروح أحلق». وآخر يرفع فوق رأسه لافتة مكتوبا فيها «متجوز من 3 أسابيع ومراتى وحشتنى. امشى خلينى أروَّح». وظلت مشاهد المسرح الحى المرٍح الذى نشاهده ونحن نتحرك تتوالى أمام عيوننا. وبين الحين والحين كانت الصيحة الجماعية تنفجر بتزامن مدهش. نبضة لاشعورية تلقائية تقاوم الاستنامة أو النسيان «هوَّه يمشى.. مش هانمشى»، ثم غام سطوع الظهيرة فجأة وانعقد الجو، وسادت المدى أهوية باردة مباغتة سرعان ما سكنت، وانهمر مطر غزير دفعنا لنلوذ بإحدى خيام المعتصمين.
كانت الخيمة لمجموعة من شباب وشابات مصابى الثورة، تحيط أرجل وأيادى بعضهم الجبائر، وتغطى الضمادات إصابات رؤوس وأعناق بعضهم، وثمة شاب كانت ضمادة مدورة ومربوطة على رأسه تغطى جرح عينه التى فقدها، وكانوا يغنون مع شاب ضرير يعزف على عوده: « يامصر هانت وبانت كلها كام يوم». لم يكونوا مُضعضَعين بإصاباتهم، حتى ذلك الشاب الذى فقد عينا من عينيه، كان ضحوكا ورائقا إلى درجة مدهشة، أتذكر أنهم كانوا ينادونه «جواد»، وقد كان جوادا جميلا للغاية.. لم تخبُ روحه برغم إصابته الجسيمة، وظل مضيئا ويضحك.
محمد المخزنجي – المصرى اليوم