الصورة في الشعر والفن التشكيلي ( الحلقة الأخيرة )

تقرير بقلم الدكتور : رمضان الحضري

كلما جلست للكتابة النقدية أحاول أن أتذكر اليوم الأول الذي خرجت فيه من بيت أبي لأرى النور حينما كنت طفلا ، وكيف أصابني الانبهار بالضياء الذي لم أكن أعرفه ، هذه الحالة تلازمني كلما فتحت نصوصا شعرية أو فنية ونويت أن أقرأها ، مما يجعلني غير محايد أبدا ، فأعود للقراءة مرات ومرات ، فعيني دوما تسقط على الأضواء ، ولاترى أهمية لنتفات الظلام المتناثرة في الكون ، فالليل مملوء بالنجوم المضيئة التي لاتترك مساحة للظلام ليتسلل إلى العيون ، والنهار مشرق منذ فجة الشمس وحتى راحتها بعد الغروب الجميل ، فإن غاب نجم الشمس خرجت ملايين النجوم لتحل محلها ، فلا يرى الظلام إلا من ظلم عينه فأغمضها عن الضوء ، وظلم قلبه فأبعده عن الحب .

عسى أن يعي القارئ سر تلك المقدمة، فلربما أنا لا أعي، فأنا ابن بحر ٍ لستُ أعرف نية الموجات تجاه الشاطئ ، هل تحضنه أم تصفعه ؟!

فبعضُ العناقِ محبةٌ والبعض تعذيب، وبعض كلام الحبِّ عشقٌ والبعضُ تأنيب ، وها أنا مقبل على أكبر بساتين الشعر العربي في عصرنا الحالي ، لأختار ظل شجيرة وأنقل لكم شعوري تحت هذا الظل .

والقصيدة التي اخترتها بعنوان ( وصف الحبيبة ) للشاعر / عبدالعزيز جويدة والتي يقول فيها :

13

قالوا إذَنْ

صِفْها لَنا

تلكَ التي دومًا نراها

في عُيونِكَ تَختَبئْ

أهيَ التي قد عذَّبتْكَ

وحيَّرتْكَ وغيَّرتكْ

وبِحبِّها هذا عَذابُكَ قد بدأْ ؟

وجعلتَها للعاشِقينَ مَليكةً

وأعدتَ للتاريخِ شيئًا مِن “سَبَأْ” ؟

أخبرتَنا:

لو أنَّ هذا البحرَ ثارْ

وأتتْ إليهِ حبيبَتُكْ

سنراهُ طفلاً فوقَ كِتفيها هَدَأْ

أخبرتَنا :

لو أنَّ في الأعماقِ نارْ

وأتتْ إليكَ وجالَستْكَ دَقيقةً

وتَبسَّمتْ

النارُ تَخبو تنطَفئْ

أخبرتَنا

لو هذهِ الصحراءُ قَفرٌ

وأتتْ إليها مرَّةً

تتفجَّرُ الأنهارُ

تخضَرُّ الصحارِي

حدَّثتَنا عنها كثيرًا

باللهِ قُلْها مَن هيَ

قُلها لِيعرفها الملأْ

فأجبتُهم:

هي كلُّ شيءٍ في حياتي

وهي الحياةُ بحُلوِها وبِمُرِّها

وهي النهايةُ دائمًا

والمُبتَدَأْ

القصيدة تتكون من تسع وتسعين كلمة، ولا أدري ولا يدري الشاعر كيف جاء هذا العدد بهذا الشكل ، لاشك أنها الصدفة ، فمن يحصي قطرات المطر لن نحاسبه في العدد كمن يحصي النجوم والرمال وأوراق الشجر، لكنني هنا متوقف لأسباب مختلفة عن الصورة التي سوف أشغل القارئ بها .

أليس غريبا أن تأتي المفردات في متوالية عددية منتظمة ونسبية بين الحروف والظروف والأفعال والاسماء فنسبة الظروف للحروف 3: 4 ، ونسبة الأفعال للأسماء 3 : 4 ونسبة الضمائر المتصلة للضمائر المنفصلة 3 : 4 ، هذا بالنسبة للصورة اللغوية المنطوقة والمرسومة حروفا وكلمات ، فهنا تناسب غريب بين المفردات اللغوية وبعضها البعض ، حسب مصطلحاتنا العربية التي لا أعول عليها كثيراً ، لأننا لم نطورها من بعد سيبويه ولو بعض التطوير .

ثانيا: الصورة الحوارية مرسومة بضدية بين السائل والمسئول، فالسائل مجموعة غير معروفة، فهي من الملأ ، أو علية القوم ، أو النبلاء الذين أصابتهم الدهشة ، والمسئول مفرد ، والطبيعي أن القوة تكون للجمع ، لكن النص هنا يجعل القوة للمفرد لأنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة ، وهذا جعل النص يندرج تحت الدرامية البحتة ، بحيث يصبح النص شعرا دراميا بعيدا عن الغنائية العربية ، لكن الشاعر يحول هذه الدرامية إلى غنائية عربية داخل حافلة الدراما .

أما الصورة التشكيلية فإن مفرداتها تتكون من (مجموعة تسأل وفرد يجيب ، الحبيبة تختبئ بعيون الحبيب المسئول ، ويظهر العذاب والحيرة والتغيير على وجه المحب ، فالمحبوبة مليكة لكل ممالك العشاق ، وتشبه مليكة سبأ _ بحر يثور ، ثم تأتي الحبيبة فيتحول البحر طفلا هادئا على كتفيها ، لماذا على كتفيها بالتحديد ؟ فكأنها أم البحر وعليها أن تحمله _ الأعماق مشتعلة ، تأتي الحبيبة وتبتسم فتنحسر النيران ثم تنطفئ ، وكأنها كانت مشتعلة بسبب غيابها وغياب بسمتها _ صحاري مقفرة جدباء ، الحبيبة تمر منها مرة واحدة تتفجر الأنهار ويهرب الاصفرار وتخضر الصحاري فجأة ، إنها أساطير فوق العادة ، الجمع يمور : من هي ؟! ، أخبر القوم ، أجب ، لا تتأخر ، هي جمال الحياة لما تكون الحياة جميلة ، والمرار ياتي في غيابها ، فهي النهاية للحياة بالتأكيد ، كما أنها كانت البداية على سبيل اليقين ) .

كيف يرسم هذه الصورة فنان تشكيلي؟ حينما تكون الصورة شعرية حقيقية كما رأينا الآن ورأينا سابقا في نصوص الدكتور أسامة أبو طالب وشاعر الجزيرة أحمد آل مجثل وفارس عمود الشعر / عباس شكر ، فإن استحالة تنفيذ الصورة على لوحة تشكيلية أمر بديهي ، لأن الشاعر يستخدم أداته الخاصة به ، والتي تميز فنه عن بقية الفنون ، نعم هناك قاسم مشترك بين جميع الفنون وهو الجمال ، لكن جماليات اللغة السمعية تختلف عن جماليات الصورة العينية ، نعم كلتاهما تثير شجونا وتحفز وجدانا وتغير توجهات كتأثير وناتج ، ولكن تبقى هناك الحدود واضحة بينهما جدا ، بل بين الشعر والموسيقى اللحنية ، فصوت الشاعر يقدم موسيقا ، والملحن يقدم نغمات في ألحانه ، وكلاهما سمعي ، ولكن لكل منهما ما يميزه عن الآخر ، وستبقى قصائد الشعراء العظماء كما بقيت موسيقى بتهوفن وعبدالوهاب ، وستبقى لوحات التشكيليين العظماء كما بقيت قصائد المتنبي وشوقي ونزار .

ها أنا قد وصلت لمنطقة الخطر ولن تجدي قراءاتي ولا معلوماتي ، حيث إنني سأقدم لوحتين للفنان التشكيلي الكبير / حسين نوح ، ولوحتين للفنان التشكيلي فهد الربيق ، ولا أملك فتوة القراءة للوحات بيقين كقراءة النص الشعري ، رغم إيماني أن اللوحة التشكيلية عمل فني من أعمال التواصل بين البشر شأنه شأن كل الفنون ، وإن كانت أداة الشعر لغة ، بينما أداة اللوحة هي الخامة واللون والأسلوب والتقنية ، وكل خط أو لون في اللوحة يقدم دلالة إيحائية ورمزية ليعبر من خلالها الفنان عن أحلامه أو هواجسه أو مخاوفه أو أفكار خاصة يحاول أن يبلغها للمتلقي عن طريق عينه ، فالعين هنا هي منطقة التواصل بين أفكار الفنان التشكيلي (اللوحة) وبين الجمهور ، ولذا فإن الفنانين التشكيليين على مستوى العالم يستخدمون كلمة العين والعمى بشكل مفرط للتعبير عن علاقتهم بالناس .

12-7

وقد اخترت للفنان حسين نوح صورة المرأة المصرية التي تفكر في حال مصر ومهمومة بمشكلاتها، وترتدي الثياب الزرقاء وتركن على الارض بيدها اليمني، وكأن يدها مغروسة في الأرض ، وتركن رأسها على يدها اليسرى ، كما اخترت للفنان فهد بن ناصر الربيق صورة موناليزا العربية ، حيث تبدو المرأة العربية أجمل من كل ( ليدي غربية ) فعيناها متسعتان وجيدها منتظم ومتناسب ومتناسق مع أكتافها ورأسها ، والبياض المشرب بالحمرة والثقة العربية التليدة والجديدة ، فكأنها منصوبة منذ بدء العروبة ، ولا تزال شابة غضة .

وقد اخترت اللوحتين للتعبير عن دور المرأة العربية كما يراها الفنانان العربيان ، فالخطوط المائلة والمنحنية في كل لوحة منهما تعبر عن رؤية الفنان للأنوثة ، فالأنوثة المصرية عند نوح في وضعها الحالي أنوثة مسئولة عن مجتمع ، خاصة حينما نعلم أن أكثر من 60% من البيوت المصرية عائلها أنثى ، فهى مشغولة ليلا ونهارا وسرا وجهارا لأنها مسئولة عن أسرة ووطن ، ولذا فعيونها لاتبين من الفكر ، وجبينها رغم الشباب مملوء بالتجاعيد ، فهي تجاعيد المعاناة لا تجاعيد الزمن ، بينما الأنوثة العربية عند الربيق هي اكتمال الشموخ ووضوح الرؤية وانفتاح العيون ونصاعة الجبين وتورد الخدود ، فالمرأة العربية في الجزيرة منعمة . فحزن المراة عند حسين نوح هو نوع من حب الحياة ، ووجاهة المرأة عند الربيق هو نوع من حب الرخاء .

12-6

كما اخترت لوحتين لتصوير الحصان العربي عند نوح والربيق ، ويبدو في لوحة نوح ثلاثة من الجياد ، يتناغى اثنان فوق رأس الثالث ، الذي لا يكاد أن يتأثر وكأنه مكتئب أو لم تعد لديه القدرة على ممارسة الحياة ، بينما يصور الربيق حصانا مفردا ليعبر على عدم التماثل أو التشابه بين الفروسية العربية وغيرها ، فكأن الفروسية هي للعربي وحده ، وقد استخدم الألوان الزاهية والقوية للتعبير عن هذا ، بينما استخدم نوح لونا أقرب إلى الظلام عند تصوير الحصان الذي فقد الإحساس بالحياة ، وعلى عكس الخطوط المنحنية الرقيقة في تصوير الأنوثة عند كلا الفنانين ، نجد الخطوط المنكسرة بشدة في تشكيل الحصان ، حيث تعبر الخطوط المنكسرة عن الحزم والقوة والصرامة والذكورة في ذات الوقت .

وفي جميع اللوحات رأيت كليهما يستخدم التشكيل الهرمي في لوحته لعبر عن بارقة الأمل، وعن التراتبية فهذا وضع ليس جديدا على المرأة المصرية ولا المرأة العربية ، كما أنه ليس جديدا على الحصان العربي ، إلى جانب الخطوط الدائرية التي تبرز الوجوه في رقتها وهي لوحات تصلح أن تكون في القصور العربية بجدارة ، وأن تعقد لها المؤتمرات ، وتقام من أجلها المعارض الكبرى .

وجاء استخدام الألوان معبرا بشكل مبتكر للغاية وقابل للتمازج مع الواقع العربي، فجاء اللون البني في لوحة الفتاة المصرية لنوح ليكون رمزا على الأمان والرغبات المكبوتة التي ضاعت سدى ، كما جاء اللون الأزرق ليرمز للسكينة وأن هذا الوضع أصبح وضعا مألوفا ( وياما دقت ع الراس طبول ) . بينما يصر الربيق على مجموع ألوان ترمز للخصوبة كالأخضر وتتناغم مع الطبيعة، بالإضافة إلى الألوان النارية التي ترمز إلى التفرد وعلو الهمة وكثرة الطموح .

في قصيدة عبدالعزيز جويدة خمسون رؤية لم أقل واحدة منها ، وفي لوحات نوح والربيق مائة رؤية لم أعرف واحدة منها ، بيد أنني أحببت أن أشاغب القارئ الحبيب في وقت الحظر ، وأحببت أن أستظل بظلال أصدقائي ( الفنان حسين نوح والفنان فهد بن ناصر الربيق ) ، وأعلن أن الوعد فوق طاقتي ، فتحليل شعر هؤلاء الشعراء عبدالعزيز جويدة والدكتور / أسامة أبو طالب وشاعر الجزيرة أحمد آل مجثل وفارس عمود الشعر / عباس شكر يحتاج إلى مؤلفات عدة ، لكنني قدمت لأصدقائي القراء بعض الاشارات التي تغني عن العبارات ، وقليلا من التلميحات التي تغني عن التصريحات .

حفظكم الله جميع قرائي الأعزاء وحفظ الله وطننا العربي الكبير شعوبا وحكاما وقيادات وجيوشا .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

اقرا ايضا

الصورة في الشعر والفن التشكيلي (3)

شكرا للتعليق على الموضوع