الصورة في الشعر والفن التشكيلي (3)

تقرير بقلم الدكتور : رمضان الحضري

لست أدري لماذا لم يذكر الناس أن عميد الأدب العربي طه حسين كان السبب الرئيس في إنشاء أربع جامعات عملاقة هي جامعة الإسكندرية وجامعة عين شمس وجامعة المنصورة وجامعة أسيوط .

وكانت هذه خطوة منه ليكون التعليم الجامعي مجانا لجميع أبناء الشعب المصري ، وكان يعتمد على المؤسسات غير الحكومية وعلى رجال الأعمال أهل الخير في زمانه ، بينما في زماننا أصبح لكل رجل أعمال جامعة وقناة فضائية ومشروعات خاصة به يستنزف بها دماء شعبه .

لست أدري ماعلاقة هذه المقدمة بالعنوان ( الصورة في الشعر والفن التشكيلي ) ؟

الحقيقة أنني قبل البدء في هذه المقالة تذكرت عبارة العميد في كتابه ( حديث الأربعاء ) حينما قال في توصيفُ الناقد :

( إن الناقد الحق هو من لایبغی النقد للنقد ، وإنما یدعوه إلیه حبه للحق لیجعله یعلو علی الباطل ، فوجب إذن أن یتنزه الناقد فی نقده ، وأن یرجع إلی الصواب إن نُبه إلیه . هنا یبدی هو حرصه علی أن یكون ذلك الناقد المثالی ، ولو أنه یری أن صناعۃ النقد لیست محببۃ إلی النفس ، فهی تكلفها الكثیـر من المكروه والألم ) .

فالناقد المجتمعي على شاكلة العميد هو فارس يحاول أن يزرع الجمال من حوله ، وأن يدافع عن الحق بالفعل والقول ، وأن يرسم طريقا لمن يأتون بعده .

وليس النقد الحديث سباقا في الحديث عن الصورة الشعرية فقد تحدث الجاحظ في تعريفه للشعر بقوله :

(الشعر فنٌّ تصويريُّ يقوم جانب كبير من جماله على الصورة الشعريّة، وحسن التعبير) .

وتلاه عبد القاهر الجرجاني حينما قال :

(ومَعلوم أنَّ سبيل الكلام سبيل التصوير والصِّياغة، وأنَّ سبيل المعنى الذي يعبِّر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصَّوغ فيه ) .

بيد أن تناول الصورة الشعرية في النقد الحديث كان تناولا لا يليق بعصرنا، فظل تناول الصورة على أنها مجموعة من الألفاظ ترسم صورة ما ، ويقصد بها تقريب

المعنى أو توضيح رؤية الشاعر، وكأن الصورة الشعرية جاءت كأداة لتبين تجربة الشاعر في حياته ، ولم تكن ذات الصورة هي الحياة التي عاشها الشاعر بنفسه مغروسا في خطوطها ، ومرتبكا في خيوطها .

10-1

وسوف أنقل لكم الصورة عند الشاعر العربي العراقي / عباس شكر عميد الشعراء العرب وفارس عمود الشعر وذلك في نص من نصوصه حينما يقول :

نغمةً قد خلتُ أعزفها

وترٌ ينساب من وتدِ

أطربتْ بالوهم سامعها

من رموشٍ غيّرت جلَدي

أنكرتني ليت زنبقتي

من مياه الثلج والبرَدِ

هل نسيتِ النار من شفتي؟

لانطفاء النار بالكبد

تهتِ بين الضمّ والعقدِ

هل اُصبتِ اليوم بالحسدِ ؟

أيّ فكرٍ جئتِ .. غبتِ به

من غباء الهجرِ..فابتعدي

يذكرني الشاعر عباس شكر بالموسيقيين في زمن الفن الجميل فقد كان القصبجي والشيخ زكريا أحمد وعبدالوهاب والسنباطي يهبون لكل مقامات الموسيقا ، ولا يتركون مقاما موسيقيا إلا وفضوا بكارته فضا شرعيا ، حتى لتظن أن موسيقاهم قد هبطت عليهم من السماء لوضوحها وجمالها وجلالها ، وكذا عباس شكر يذهب لكل البحور الشعرية كاملها ومجزوئها ليتزاوج مع اللغة العربية وشعرها زواجا شرعيا ، لا لبس فيه ولا اختلاف ، فالنص السابق مديد مخبون وقلة من يكتبون عليه في وقتنا الحاضر ، وكذا قرأت له نصا منذ أيام على المنسرح بعنوان

(ينسرح الحظر لو زرت أمي) يقول فيه :

قد زرتها رغم الحظر… ما أخشى؟

قيثارةٌ ….. لا كالنايِ لو أفشى

لكنني مهتم اليوم ببيان خطوط الصورة في النص المذكور سلفا، حيث تأتي مفردات الصورة كما يلي :

(عازف يعزف على وتر لم يحدد _ سامع يطرب للعزف

والنغمات _ رموش تقوم بتغيير الجلد _ زنبقة أصابها

النسيان تعمدا أو سهوا _ ذكريات ري الزنبقة بالماء

والثلج والبرد _ ذكرى اشتعال النار في الشفاه _ ذكرى

انطفاء النار في الكبد _ ذكريات الضم والعناق حتى عقد

الأيادي _ إصابة مفاجئة بالحسد _ هجر غبي للغاية).

حينما يريد الفنان التشكيلي أن يجمع مفردات هذه الصورة

سيجد أمامه عقبات متعددة، أولها عقبات الصوت ، ثانيها

عقبات الزمن، ثالثها عقبات التجانس التصويري واللوني ورابعها عقبات المساحة

وبالتالي حينما نقول أن الشاعر رسم صورته بريشة ذهنية هو ينقل الألفاظ من مرحلة المعاني والدلالة إلى منطقة الإيحاء ومنطقة الإيحاء تجعل القارئ يعيش نفس تجربة الشاعر التي عاشها، فالشاعر يعزف ويطرب بنفسه ويتذكر رموش محبوبته فيتغير جلده ، ويتذكر لحظة صدها ويتذكر حنانه ضدها ، ويرى نفسه يطفئ النيران التي كانت مشتعلة في كبدها وكبدها ، وهنا تصيبه الدهشة من فكرة البعد ، نعم شاعر يقول ما يفهم ، ويفهم ما يقول .

وحرف الدال المكسورة في القصيدة هو حرف مقلق رغم تحريكه بالكسر، والعرب في عادتها لا تفخم حرف الدال، لأنه حرف يخرج من طرف اللسان من المنطقة العليا من الحلق ، فهو صعب النطق خاصة حينما يكون ساكنا يحتاج للقلقلة ، ولذا فهو من حروف القلقلة عند علماء التجويد ( قطب جد ) ، وقد ذكرتني هذه القصيدة بقصيدة أخرى لشاعر الجزيرة العربي السعودي / أحمد آل مجثل بعنوان ( جارة الورد ) يقول فيها :

11

ياجارة الورد التي صَدحتْ

لم تشتكي إذ نلتُها بيدي

ما بال هذا القلب يهجرنا

للروح يشكو العين من رمد ِ

إن عشتُ دهراً لا أمازحها

لا ليس هذا العُمر بالنّكِـد

في النّاي وحيُ غوايةٍ و لنا

في الليل مثل الناي من رغَد

ها أنت فوقي غيمة عبرت

زيدي لنا كَيلا من المدد

مُدّي خيوطَ الفجر واتّحِد

أبقي سراج الليل واتّقَد

************

والحق أن الشاعر يحاول في شعره جله أو كله أن يرسم صورة شعرية غير قابلة للتشكيل اللوني وإن كانت قابلة للحدوث في الواقع ، ربما أن الشاعر دوما يحاول الهروب من التقليد الذي أنهك جدران الشعر العربي ، حتى سقطت بعض القصائد على رأس قائلها فقتلته وقتلت معه شعرا كثيرا .

والصورة في هذه القصيدة تتكون من مفردات مختلفة عن قصيدة شاعر العراق الكبير عباس شكر رغم اتفاقهما في حرف الروي الدال المكسورة والمؤثرة بالضغط على أذن السامع، والمجهدة على لسان الناطق ، خاصة إذا كان الناطق قد فقد إحساسه بجماليات ومخارج حروف لغتنا العربية ، فالصورة هنا تتكون من :

( أنثى تسكن جوار الوردة أو العكس وردة تسكن بجوار المحبوبة فالجيران جنس واحد غالبا ، فجار الإنسان إنسان ، وجار الريحان ريحان ، وجارة الوردة قد أمسكها الشاعر بيده برفق فلم تشتكي لكن حوار الجوارح بين القلب والروح مستمر ، فالقلب يقدم شكوى ضد العين التي لا ترى وكأنها تحتاج لعلاج من الرمد ، فلو لم تر العين ، فهل تسمع الأذن نايا في الليل ؟ ، وناي الليل يُسمع من بعيد ، وهل تتذكر جارة الوردة زمن المزاح الذي ولى وما عاد ، ها هي تمر غيمة محملة بالمفاتن ليتها تمطر من جودها جمالا يعجل بحضور الفجر ، أو تتحد كما اتحدنا سابقا لتصبح سراجا مشتعلا يضيء الليل ) .

وهكذا يعوض شاعر الجزيرة صعوبة الروي بجمال التصوير، ويبدل كسر الدال التي تلوي عنق قائلها رغما عنه بجمال التعبير ،أحيل القارئ لقراءة سورة البلد حيث يقول مولانا جل في علاه :

(بسم الله الرحمن الرحيم لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ) .

فلو قرأنا بتسكين الدال سوف تتضح لنا قوة الحرف وكيف أنه يحبس النفس عند تسكينه، ولو قرأنا بتحريك الحرف سوف نشعر كيف أن حرف الدال رغم انه لا يفخم إلا أنه حرف قوي في الفم وفي الأذن ، ويحتاج دفقة هواء عند التحريك وصمودا وقوة عند التسكين .

تقف في عيناي لوحات أربعة، اثنتان للفنان التشكيلي السعودي/ فهد الربيق ، واثنتان للتشكيلي المصري العظيم / حسين نوح ، وهذه اللوحات الأربعة سوف أضعهم في إطار من شعر عبدالعزيز جويدة ، ولكن يبدو أن الأمر هذه الليلة مستحيل ، فسوف يكون ذلك بأمر الله جل في علاه في المقالة التالية إذا شاء الله وقدر .

اقرأ ايضا

الصورة في الشعر والفن التشكيل (2)

شكرا للتعليق على الموضوع