بول أبي درغام يكتب: معرفة الباطن الإنساني “نافذة على الحقائق الإنسانية”
لقد قيل: “إعرف نفسك تعرف الله والكون…” (من أقوال الحكماء الاغريق)
وقيل أيضًا: ” وتحسب أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر…” (الإمام علي بن أبي طالب)
كما قيل أيضًا: “ملكوت الله في داخلكم…” (السيد المسيح)
بالرغم من الفارق الزمني والاختلاف الجغرافي والتنوع في الخلفية العلمية والفلسفية والدينية لهذه الأقوال المختلفة، فإنّها تُجمع حول حقيقة واحدة وحيدة؛ العالم الداخلي في الإنسان يحوي الحقائق والأسرار، وينطوي على كلّ ما يسعى إليه الإنسان، وعيًا منه أو لاوعيًا…
لكن الواقع المؤلم هو أنّ الإنسان يتجاهل هذه الحقيقة وينكبّ بكلّ طاقاته على دراسة مجاهل الكون وعلى تشريح المادّة والذرّة ومكوّناتها، ومتناسيًا البعد الأقرب إليه: كيانه الداخلي.
الكيان الإنساني عالم بحدّ ذاته، وقد توسّعت علوم الإيزوتيريك في دراسة أبعاده المختلفة، فقدّمت منهجًا معرفيًا متكاملًا يشرح طبيعة الإنسان الباطنية-اللامرئية، والظاهرية الجسدية. والأهمّ أنّ منهج علم الإيزوتيريك يكشف تكامل هذين البعدين، وتأثير تفاعلهما على حياة كلّ إنسان وعلى مفاصلها المختلفة وتفاصيلها المتنوعة.
توضح علوم الإيزوتيريك عبر مؤلّفاتها التي ناهزت المئة مؤلّف بقلم الدكتور جوزيف مجدلاني (ج ب م) أنّ الباطن أصل وجود الظاهر، ووعي التفاعل بين هذين البعدين يوصل كلّ إنسان إلى وعي أشمل، وفهم أعمق للحياة وغوامضها، ولتجاربها الهادفة والبعيدة كلّ البعد عن العشوائية والحظ…
بالرغم من تشديد علوم الإيزوتيريك على أهميّة البُعد الباطني، وتأكيدها على أنّ كلّ العوامل الظاهرية هي نتيجة مباشرة للتفاعلات الباطنية، إلّا أنّها تنبّه أيضًا من خطورة المفاضلة بين هذين البعدين… فالتعلّق بالمادّة، والانغماس الكلّي في محيطها، لا يقلّ خطورة عن الترفّع عنها، والانصراف الكلّي إلى التأمّل والزهد… فالحياة رحلة تفعيل للمعرفة الباطنية في خضم الحياة اليوميّة ليرتقي الوعي الإنساني… نحو إنسان أفضل.
في أعماق كلّ إنسان “بوصلة داخلية”، وإرادة فطرية تجعلانه يسعى دائمًا نحو الأفضل، بحسب مفهومه لهذا الأفضل… فالإنسان المادّي التوجّه يختصر “الأفضل” بالنجاح العملي والكسب المادّي، كوسائل لتحقيق السعادة المنشودة… لكن حقيقة الأمر أنّ “الأفضل” يكمن في ما يتمّ تحقيقه من صقل للنفس على درب النجاح العملي والكسب المادّي… الفارق بسيط لكنّه جوهري. فالالتفاتة الداخلية إلى تأثير كلّ عمل نتمّمه في الحياة كي نكون “انسان أفضل”، لهو تحقيق لهدف الحياة وله سحر تحقيق السعادة، سعادة هي سرّ الارتقاء الظاهري-الباطني في آن… فالسعادة الحقّ هي التقاء إرادة الإنسان بإرادة الحياة…
يتمظهر التفاعل الباطني في أشكال عديدة وطرق مختلفة كان لها الأثر الكبير على التطور البشري في مختلف مجالاته العلميّة والاجتماعية والفنّية. بالرغم من تلمّس الإنسان لمفاعيل الأبعاد الباطنية، إلّا أنّه وضعها في خانة الغوامض والخوارق لأنّه لم يلقى لها تفسيرًا متكاملًا ومترابطًا. ومن أشكال تمظهر فعل الباطن في الحياة: اكتشافات علميّة توصّل إليها أصحابها عبر إيجاد الحلول للمعضلات عبر الحلم… ومعارف إنسانية تمّ التوصّل إليها عبر التأمّل… وكشوفات معرفيّة تمّت عبر رؤىً و”انخطافات” أو رحلات إلى عالم الباطن… روائع وإبداعات فنّية توصّل إليها أصحابها عبر تفاعلات للوعي تشبه حالات التأمّل… بالإضافة إلى المقدرات الإنسانية مثل الحدس والتخاطر وتوارد الأفكار وغيرها… والتي لم يتوصّل العلم المادّي بعد إلى كيفيّة حدوثها.
عالم الباطن، هذا العالم القريب البعيد، هذا البُعد اللامنظور الذي لولا وجوده لما وُجدنا، ليس وهمًا أو هدفًا بعيد المنال… إنّه حقيقة يتلمّسها كلّ من اطّلع على معرفة هذا الباطن بانفتاح وأزاح، ولو قليلًا، “ستارة” البُعد المادّي الكثيف المسدلة على مداركه وعلى حواسه…
معرفة الباطن الإنساني هي نافذة على الحقائق الإنسانية وغوامض الحياة وأسرار الوجود. لكن، تبقى هذه المعرفة محدودة في الإطار النظري إن لم يجعل المرء من حياته ميدان تفعيل لها، وذلك عبر خوض كلّ تجربة في الحياة كفرصة تعلّم وتطوّر خارجي-حياتي وداخلي-نفسي، تجعل منه “إنسان أفضل”… فخوض التجربة الحياتية بواقعية البُعد المادّي، وفي ضوء حقيقة المسبّبات الباطنية لهذه التجربة ونتائجها المرجوة، له فعل يلامس المعجزات…
اقرأ للكاتب
بول أبي درغام يكتب : ماذا يريد الإنسان من الحياة؟