عبير نافع تكتب: الحياة تجارب
إسمحوا لي أن استهِّل المقال ببضعة تساؤلات عن الحياة وماهيتها، هل تتوقعون حياة بلا تجارب أو ابتلاءات؟ هل ستشعرون حقاً بالحياة ولذتها وهي خالية من التجارب والاختبارات؟ أو بمعنى أصح، هل ستدركون مفهوم الحياة وقيمتها بخلوها التام من التجارب والابتلاءات؟ أم ستصيروا كالموات لا حياة فيها ولا نضارة؟
نعم، أعلم إن أحلامنا برُمَّتها في أن تغدو حياتنا هكذا بلا صعاب وبلا محن، حياة رغدة هنيئة لا شقاء فيها ولا تعب. لكن، عندما سُئِل الإمام أحمد بن حنبل :
ألم تصدك المحن عن الطريق ؟!
قال : والله لولا المحن ؛ لشككت في الطريق ..!
ان الله لا يبتليك بشيءٍ إلا كان خيراً لك .. وإن ظننت العكس ..!
أرح قلبك .. فلولا البلاء لكان يوسف مدللاً في حضن أبيه ..
ولكنه مع البلاء صار عزيز مصر ..!
ومن المنفى رجع موسى نبيا…!!!!
ورجع من المهجر سيد الخلق فاتحا..!!
أفيضيق صدرك بعد هذا ؟!
كونوا على يقين أن هناك شيئاً جميلاً ؛؛
ينتظركم بعد _ الصبر
ليبهركم وينسيكم مرارة الألم ..
وهذا بدوره، ينقلنا إلى تساؤلات أخرى، لماذا تكثر نسبة الانتحار في بلاد الرخاء حيث الحياة الرغدة المنعمة؟ أليست هذه غاية أمانينا أن نحيا مثلهم؟ إذن، لماذا لا يستشعرون هذه النعم ولا يقدرونها، فيقدمون على الانتحار؟ ماذا ينقصهم لتتولد لديهم مشاعر السعادة والفرحة، وتدوم إلى ما لا نهاية؟ أم أدركوا إنه لا جديد في الحياة وإنها لم تعد حبلى بالمفاجآت المبهرة التي تطلق شرارة الفرحة كل حين، حتى تبهت وتنطفئ، وهكذا مرة بعد أخرى؟
لذا، لو أدركنا فلسفة حياة الدنيا لوجدنا الأجوبة عن هذه التساؤلات المحيرة، حيث تكمن فلسفتها في كثرة تقلباتها المستمرة والانتقال من مرحلة إلى أخرى ومن الميلاد إلى الموت وما بينهما من تغييرات جوهرية، فلا شئ باق ولا خالد في حياة الدنيا إلا فقط وجه الله تعالى، ونبرهن على ذلك بأن كل شئ يتغير أمامنا ويظهر ويختفي كتعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، والفصول الأربعة ( الصيف، الخريف، الشتاء، الربيع ) حتى التدرج في المناخ من شدة الحرارة إلى البرودة القارسة، كما إنه ليس هناك نهار دائم ولا ليل أبدي.
بديهياً، يزداد وعَيُنا بتداول وتتابع كل شئ في دورة الحياة وتدرجه، حيث يبدأ من الصفر فيكبر ويعلو، ثم يصغر ويهبط حتى يعود إلى سيرته الأولى، وهي نقطة البداية، ونضرب مثلاً ونستشهد بقول الله جلَّ جلاله في كتابه الكريم :” وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ” آية ٣٩ سورة يس.
وهكذا تتدرج أعمارنا من المهد إلى اللحد ، من الضعف إلى القوة، ثم من القوة الى الضعف. وحتى أحلامنا وطموحاتنا وأفكارنا تختلف وتتباين في كل مرحلة عمرية بما يتوائم معها، كذلك الأحاسيس والمشاعر، فهي تتبدل من الحزن إلى الفرحة، ومن انكسار الهزيمة إلى نشوة الإنتصار، ومن القلق والخوف إلى الإطمئنان والشعور بالأمان وهكذا دواليك. مما يزيد من إدراكنا واستيعابنا بإنه لا شئ يبدو على وتيرة واحدة.
عندئذ، يتبادر إلى ذهننا سؤال أخر وهو، ماذا لو كانت الحياة بدون تجارب وابتلاءات؟ قطعاً، سينتابنا إحساس الملل والضجر من رتابة الحياة، وإنه لا جديد تحت الشمس مع عدم شعورنا بقيمة الأشياء وأهميتها، لكن إذا داهمنا مرض ما، ستغمرنا السعادة باسترداد صحتنا، وحين نتوه في الطريق إلى منزلنا، يعترينا القلق حتى نجد وسيلة تقودنا إلى المنزل، فيتملكنا الحنين إليه كملاذ ومأوى للراحة والأمان. لذلك، غياب الأشياء أو زوالها تعلمنا وتدرب فينا حس إدراك النعم لأن الاعتياد عليها يطفئ بداخلنا التقدير بأهميتها وجدواها مع توهم بديهي لبقاءها الأبدى.
تحليلاً لما سبق، يمكن القول بأن الحياة بلا تجارب أشبه بالمياة الراكدة لا انتعاش فيها، أما التجديد والتغيير في الحياة يمثل جريان الماء وانطلاقه مهما قابلته صخور الصعاب والتحديات، والنفس البشرية تميل بفطرتها إلى خوض المخاطر والمغامرات، فيتضح لنا تجلي السر في كلمة التحدي ولكن لا يتأتى التحدي الا بشق الطريق نحو التجارب والابتلاءات والتي بدورها تثير فينا غريزة التمسك بالحياة بل والتشبث بها لتحقيق أهدافنا وأحلامنا.
لذا، في رحلة الحياة، وبين كل تجربة وأخرى، ومن محنة لأخرى، نتعلم أشياء جديدة تقودنا إلى مراحل متتالية من التجارب والابتلاءات فتتوالى المفاجآت وقد نفشل ثم ننهض من جديد فنكتسب خبرات حياتية من خلال اجتياز كل هذه المراحل باختلافها وتنوعها مما يزيد من قوة عزيمتنا وصلابتنا فلا نكل ولا نمل حتى نستكمل المسيرة إلى أخر الطريق وهكذا .
ولنكون أكثر توضيحاً، سوف نرمز للحياة وصعوباتها بالمسابقة صعبة المراس، والتي تثير فينا العزيمة والحماس والإصرار على مواصلة الطريق إلى نهاية المسابقة حتى نفوز، وعندما تنتهي المسابقة نكون قد ودعنا الدنيا بعد اجتياز كل هذه الاختبارات، والعبرة هنا، في إن المسابقة إذا كانت سهلة يسيرة دون أي إثارة تذكر سنرغب في الخروج المبكر من المسابقة قبل الوصول إلى النهاية من فرض إحساسنا بالضجر والضيق والملل كمحاولة للانتحار والتخلص من الحياة، والعكس صحيح حيث يقودنا الاستنتاج إلى المعادلة الآتية: وهي أن نسبة صعوبة المسابقة تتناسب طردياً مع التعطش للتحدي والإصرار بروح المغامرة حتى البلوغ إلى نهايتها، ولكن يجدر الإشارة بأن ذلك فقط، عندما تكون الحياة مهيأة جدياً بما يتلائم مع قدراتنا دون الإجهاز عليها بالضغط الذي يقهرنا، مما يضطرنا إلى الاستسلام المبكر قبل نهاية المسابقة بشعور اليأس والإحباط، فيودي بحياتنا ثقل العبء النفسي القاتل.
وفي أخر المطاف، بعد عرض هذه التساؤلات والأجوبة، نخلص القول بأن حب الحياة والتمسك بها يأتي انطلاقاً من هذه الفلسفة الحياتية ألا وهي: ” الحياة تجارب” .
اقرأ للكاتبة
التلغراف تحاور الفنان أسامة عباس