الشعور قبل النظم في شعر “علاء عبد الظاهر”

نقد وتقرير: دكتور رمضان الحضري

متابعة: إيمان الحملي

مما روي عن ذي النون حينما خرج مغاضبا: أنه رأى سيدة تفتح باب دارها وتطرد طفلها خارج المنزل والطفل يتوسل لها أن يدخل مرة أخرى، لكن الأم لم تفتح له ، وظل ذو النون يراقب الحادثة ، حيث يلعب الطفل ويلهو ثم يعود ليطرق الباب ويرجو أمه أن تفتح ولكنها لا تفتح ، وتكرر الموقف من الطفل والرد من الأم إلى أن سمع الطفل وهو يتوسل لأمه بقوله : لن أفعل ذلك مرة أخرى وسوف أكون طائعا لأوامرك ، ولن أترك الباب حتى تفتحي لي وأدخل مرة أخرى ، ففتحت له أمه الباب ودخل مرة أخرى، فتعلم ذو النون من هذا الموقف المواظبة على الطلب والبعد عن المخالفة لله والاستمرار في الوقوف على باب الله جل في علاه .

وأبواب الله متعددة للغاية فمنها باب التصدق وباب الكرم وباب التقوى وباب الرجاء والدعاء وباب المحبة وباب العلم وغيرها من الأبواب التي لاتعد ولا تحصى، وفي ظني أن باب العلم هو أوسع الأبواب وأيسرها للطلاب وأعلاها عند الوهاب سبحانه وتعالى.

وقد ضل أقوامٌ وأضلوا كثيرا حينما علَّموا أن الدين كلام، فظلوا يقولون مالا يفعلون، ويهرفون بما لا يعرفون، ويتعالون في الحضيض ويفتخرون بما لا يملكون، فتحول الدين لتجارة، وتحول الطهر لفجور ومجون، وتبعهم أقوام آخرون.

ومن أهم القضايا التي أحاول أن أزرعها عسى أن يأتي النبات حسنا أن الأدب ليس كلاما جميلا، وبخاصة الشعر، بل إن الأدب مجتمع سلوكه جميل، وبخاصة الشعر.

فليس الشاعر من قال كلاما جميلا، بل من سلك مسلكا جميلا، فجاء قوله نبيلا وجميلا، فنشر سلوكا طيبا وقولا عجبا، فكان الشاعر قصيدة قبل الكتابة، فلما نظمها أصبحت أكثر إضاءة، ويفهم البعض أن النظم هو وزن الكلمات على بحور الخليل، والحقيقة أن النظم يعني اختيار الأفضل من الكلمات الدرية لتنضم لبعضها لتشكل عقدا فكريا يقدم توجها وتصحيحا لحركة سير عجلة المجتمع، أو ليس الأمر كذلك؟!

ذلك ما نفرق به بين الشاعر الحقيقي الذي يقدم وجبة شعرية للمجتمع، وبين الشاعر المتكلم الذي يقدم كلاما يظنه جميلا ويكتفي أنه يؤثر في سامعه لحظة السماع، فالشاعر عضو اجتماعي قبل أن يكون متكلما ، وما شعره سوى دليل على عبقرية فكره وانتظام شعوره قبل نظم شعره

وهذا ما جعل حافظ إبراهيم أهم من إسماعيل صبري، وجعل البارودي الشاعر أقوى من البارودي قائد الجيوش، وجعل ناجي الشاعر أكثر تأثيرا في المجتمع بشعره أكثر من ناجي الطبيب.

فما تبقى من روعة عنترة بن شداد سوى كلماته التي تفيض عذوبة وحكمه :

بكرت تخوفني الحتوف كأنني

أصبحت عن غرض الحتوف بمعزلِ

وأجبتها أن المنية منهلٌ

لابد أن أُسقى بكأس المنهلِ

ولأن المثقف العربي الحقيقي هو مسئول عن فكر مجتمع وثقافته فدوما يفتش في عروق المجتمع عن كل جديد وتجديد، وعن كل إضافة يمكنه أن يضيفها ، كما أضاف شوقي عبدالوهاب للموسيقا وكما أضافت أم كلثوم رامي لشعراء العامية بجوار بيرم التونسي .

هذه تقدمة حقيقية لشاعر أعرفه شاعرًا إن نطق شعرا أو صمتَ حيث يقدم روحه لمجتمعه ، يقدمها عطاء لقاء أن يجد مكانا ليقف فيه على أرضه الجميلة التي دافع عنها بنفسه وروحه قبل أن يدافع عنها بكلماته ، ولذا فدوما تجئ كلماته بيانات شعرية لا تعنيه الصورة ولا الوزن ، ولا تعنيه القصيدة تشكيلا جديدا أو قديما بل كل ما يعنيه أن يقدم دمه في نصه ، أو يقدم روحه في كلماته ، هذا ما جعلني أقول إن الشاعر علاء عبدا لظاهر عنترة العامية، فهو يؤمن بالمبادئ والقيم التي يدافع عنها ، وهذا شان كل الشعراء العظماء على مر التاريخ ، يدافعون عن فنهم كما يدافعون عن أوطانهم، لأن فنونهم تقدم شخصيتهم ولا تقدم كلاما ملفوظا ، لكنها تقدم فعلا يريد أن ينتشر أو يندثر ، وتقدم توجها يريد أن يغير ما ساء من توجهات في الواقع ، فما حروب النبلاء سوى إقامة مناهج صحيحة تهدم وثنية الفكر وجاهلية الفعل وتطرد مساوئ الأخلاق ، ترى لماذا خافت المجتمعات من بعث الأنبياء والرسل ؟! ، ذلك لأنهم سوف يهدمون الأصنام والأوثان من الحجارة أو من بني الإنسان وينفضون الظلام عن صحيح العلوم ، ويقدمون للخلق خريطة الطريق للتعامل مع الموجودات من حولهم .

لنستمع للشاعر/ علاء عبدا لظاهر حينما يتحدث عن المزاد، حينما يقول:

فُتِحَ المزاد

أحوال أشغال

أذواق أخلاق

معروضة تتباع في مزاد علني

موجودة اشغال نازلة ف مزاد

مين قال هات وعلينا زاد

مين قال انا ومين قال عايزين

دا مزاد ومزاد في مزاد

آلا آونة آلا دويه آلا تريه

معانا أخلاق معروضة في مزاد

واشغال خالصة من الحساد

مين قال هات ولعرضنا زاد

مين قال أنا

موجودة وظايف

تنفع ناس غير الناس

مين قال انا مين قال هات

العرض خلاص وقلتم ايه

يالا يا هانم يالا يابيه

مين قال أيوه مين قاله آيه

وظيفة جميلة تعمل قيمة

فنان سيما

يقول ف امان كمان وكمان

كل اللى ف نفسه

يقول لنا شعر

لسانه يلب

يهب يدب

يسب يحب

ما حد يحاسبه

من غير ما يشوف ما بقاش مكسوف

من خلق يهدد ولا دنيا تعاتبه

مين قال هات

آلا آونة آلا دوه  آلا تريه

المزاد هنا لسلعة لا تباع ولا تشترى فعلا، لكنها أهم السلع في حياة الناس، إنها الأخلاق، وحينما توضع الأخلاق في مزاد علني فهذا معناه أن المجتمعات على حافة الهاوية، وعلى شفا جرف هار ، ولينتظر المجتمع طامات تزلزله حتى المحو ، وكوارث تدمره حتى لا يبقى أثر .

الشاعر الحقيقي هو أكبر موجه للمجتمع، فهو يقرأ المستقبل قراءة مبنية على مقدمات حاضرة واضحة، ويكشف عقبات الحاضر، ويرسم طريقا جليا لمن يريد أن يسير فيه.

فيربط الشاعر بين داخله المعترض وبين واقعه المخالف ، وبين انفصاله عن هذا السلوك اللاأخلاقي واتصاله بالمجتمع الذي يعيش فيه فهو معترض مشاهد للحوادث ، ومنفصل عنها ومتصل بها لأنها تؤثر على كل ما حوله ، ولذا فهو يقدم صورة فنية مسرحية للعرض أمام القارئ الذي يمكنه أن يحول هذه الكلمات الذهنية إلى صورة مرئية مشهودة ومسموعة ، فركن في الصورة لبيع الوهم للناس من وظائف وأشغال ، وركن لمن يبيع كلاما يشبه ( اللب ) لا يسمن ولا يغني من جوع ، وركن يبيع النجومية ، وركن يبيع الكذب ، ذألكم المزاد في شعر علاء عبدا لظاهر .

هذا المزاد المتخيل أكثر وضوحا من المزاد العلني الحقيقي لبيع السلع، وصوت الشاعر يعلو بقسوة وعنف، ويتألم بصرخات وخوف، ويرفض وكأنه يقول للعامل في المزاد قف ، لكن صوت المزاد أعلى من صوت الشاعر ، فلسان الحق أخرس ، ولسان سوء الخلق له ألف منبر في القنوات والصحف والشاشات والموجات .

شكرا لك فارسنا الشاعر وشاعرنا الفارس أنك منحتني هذه اللحظات لأتأمل في شعرك المهم للغاية، ها جهد المقلين وعلى الله السداد.

اقرأ ايضاً

الشعر العربي “بين المؤامرة والمتاجرة”

شكرا للتعليق على الموضوع