حسن الحضري يكتب: جماليات الصورة في شعر رعد أمان

    تحتل الصورة رُكنًا ركِينًا من أركان الشعر العربي، وتمثِّل مكوِّنًا رئيسًا من مكوناته، وبها تكون المفاضلة بين الشعراء، وذلك باعتبار أن الشعر المقصود هنا هو ما بُنِي على مقوِّمات الشعر وثوابته المعروفة؛ حيث يكون عنصر المفاضلة بعد ذلك هو الصورة الشعرية؛ وفي هذا المقال نتناول جماليات الصورة عند الشاعر اليمني الأصل، الإماراتي الموطن؛ رعد أمان.

ونلاحظ أن رعدًا من الشعراء الذين تكثر في أشعارهم الأنساق المضمرة؛ التي تعبِّر تعبيرًا واضحًا عن فضاءاته الشعرية الواسعة، وقدراته العلمية، وسعة اطِّلاعه؛ يقول رعد في مدح النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

فهْو البَشيرُ الذي شَعَّتْ خَلائقُهُ=مِن نُورِ خالقِهِ في مُعجِزِ الكَلِمِ

وهو يقصد بذلك قول الله تعالى (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) [المائدة: 15]، وقوله مثنيًا على رسوله الكريم (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].   

كما نجده يُعيد المعاني التراثية التي يستمدها من أشعار السابقين، ويوظِّفها من جديد في بناء محكم النسج؛ كقوله: 

وعِشْ على أملٍ في كلِّ آونةٍ=فازَ الذي عاشَ في دُنياهُ بالأملِ

حيث يذكِّرنا بقول الطغرائي:

أُعلِّلُ النَّفسَ بالآمالِ أرقُبُها=ما أضيَقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأمَلِ

وكذلك في قوله:

منَّيتَ نفسَكَ بالآمالِ تطلبُها=ولم تَجِدَّ ولم تَشتدَّ في الطَّلبِ

ما دمتَ ترجو من الأيام أهنأَها=فاسلُكْ إليها سبيلَ الكدِّ والتَّعبِ

حيث يذكِّرنا بقول أحمد شوقي:

وما نَيلُ المَطالبِ بالتَّمنِّي=ولكنْ تُؤخَذُ الدُّنيا غِلابا

   أما عن جمالية الصورة لدى رعد؛ فنجدها في ألوانٍ شتى من البلاغات التعبيرية، التي يرسم بها صورته الشعرية؛ ومن ذلك بلاغة الإصراف والإِيهام، في قوله:

كأنَّكَ في جُفونِ الأمسِ حُلْمٌ= وفي ليلِ الأسَى وهمٌ كأنِّي

حيث يُوهِم السامع أن قوله (وفِي ليلِ الأسَى وهمٌ) معطوف على قوله (في جفنِ الأمسِ حُلمٌ) وعائدٌ على المخاطَب؛ ثم يأتي بقوله (كأني) فيصرف بها ذلك الإيهام إلى متعلقٍ آخر هو نفسه وليس المحبوب الذي يخاطبه.

وفي قصيدته (خورفكان) يقول:

حسناءُ تُغري بِسِحرِ النُّورِ كلَّ صَدٍ=كأنها كوثرٌ في كأسِ ظمآنِ

فنجد بلاغة التَّناسب في قوله (تُغري، سحر)، وقوله (صدٍ، كوثر، كأس، ظمآن)؛ فلمَّا كان هدفها الإغراء لجأتْ إلى السِّحر، ولمَّا كان السِّحر لا يجدي؛ لم يتعلق بها إلا كل صَدٍ، ولمَّا كان ذلك الصَّدِي -وهو الشديد العطش- يحتاج إلى الماء ليرتوي؛ أصبح ذلك النور الذي أغرته به في سِحرها؛ كأنه كوثر في الكأس، ومما زاد الصورة جمالًا؛ أنه جعل ذلك الكوثر في كأس ظمآن، والظمأ هو أقل درجات العطش، فلمَّا كانت هذه هي الحال؛ حُقَّ لذلك الصَّدِي أن يُغرَى بها، وهو في حاله تلك لا يشعر أن ذلك الذي تغريه به هو (نُورٌ) وليس (ماءً).      

   وفي قصيدةٍ أخرى يقول:

مِن أوَّلِ الحاءِ حتى آخِرِ الباءِ=أُحِبُّها فهْي أنفاسي وحوبائي

 فتبدو بلاغة التضاد واضحة في قوله (أول، آخر)؛ ويفيد التضاد هنا الشمول والاستغراق؛ فهو يريد أن يقول: إنه يحب محبوبته الحب التام الذي تحتويه كلمة الحب؛ بدءًا من أول حرفٍ بها وهو الحاء، مرورًا بما يقابله في (صَرْحِ) هذه الكلمة، حتى يصل إلى آخر منتهاها؛ فجاءت الصورة بوضوحٍ تام دون تكلُّفٍ في اللفظ أو شططٍ في المعنى.

ثم تأتي بلاغة الترادف في الشطر الثاني من البيت؛ في قوله (أنفاسي وحوبائي)؛ فالأنفاس هي التي يعيش عليها الإنسان، والحوباء هي نفْسه التي يعيش بها.

ثم يعود الشاعر إلى بلاغة التضاد مرة أخرى في القصيدة ذاتها، فيقول:

أنا الذي في مَحاريبِ الغرامِ جَثا=يَرنُو إلى نَجمةٍ في أوْجِ علياءِ

حيث يجمع بين (جثا، وعلياء)؛ فهو يرى أنه لا بد أن يجثو -أي: ينزل جالسًا على ركبتيه- حتى تعلوَ مكانته عند محبوبته، فترقى به من السفل إلى العلو؛ وهو هنا كما قال أبو فراس الحمداني:

تَهُونُ علينا في المعالي نُفُوسُنا=ومَن خَطَبَ العلياءَ لم يَغْلُهُ المَهرُ

ثم يقول رعد:

لولا حياءٌ بها من طبعِها لرنَتْ=إليهِ لكنها تسمو بإغضاءِ

فنجد لديه التضاد في قوله (رنت، بإغضاء)، وقد اقترن الإغضاء عنده بالسُّمُوِّ، وهذا من أحسن المعاني وأتمِّها في مثل هذا الموضِع، ولا سيَّما أن الدافع إليه الحياء؛ الذي هو زَين الخُلُق، ولذلك أردف بقوله بعد ذلك مباشرة:

سبحان مَن زانها إذْ زادَها خجلًا=كأنَّ عِفَّتَها الفردوسُ للرَّائي

وفي ختمِهِ القصيدة بهذا البيت يكشف عن بُعدٍ وجدانيٍّ داخله؛ حيث ذكر فيه أكثر ما يمكن أن يتمنَّاه الإنسان؛ وهو جنة الفردوس.

ومن صور التضاد البليغة في شعر رعد أمان؛ قوله:

مَلكتَ أنَايَ حتى صِرتَ (إنِّي)=وكنتُ أَناكَ لكنْ لم تَكُنِّي

ويعاضد هذا المعنى قوله في قصيدة أخرى:

أنتِ ابتسامُ السَّنا في عِزِّ بَهجتِهِ=ولستُ شيئًا أنا يا كلَّ أشيائي

وكأنه يجيب بهذا البيت الأخير، عن سؤالٍ دفينٍ في طيَّات البيت الذي قبْله، بالرغم من اختلاف القصيدة التي ينتمي إليها كل بيتٍ منهما؛ ففي البيت الأول يتكلم عن محبوبته بضمير المتكلم بعد أن احتلَّت كيانه، في حين لم يستطع هو احتلالها، فظلَّت على استقلاليَّتها؛ ثم يذكر سبب هذا التناقض الظاهري، في البيت الأخير؛ الذي يكشف فيه أنه ليس بشيءٍ، وأنها كل أشيائه؛ فلمَّا كانت هذه هي الحال؛ حُقَّ له أن يعنِيَها بصيغة المتكلم، دون أن تبادله الشيء بالشيء؛ لأنه أفنَى نفسه في حبها، فأصبح (لا شيء).

اقرأ للكاتب

حسن الحضري يكتب: أزمة البحث العلمي في عصر العولمة

شكرا للتعليق على الموضوع