مصطفى جودة يكتب: حدود العلم وقصوره

أ.د: مصطفي جودة

رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا

يعتبر العلم من أقوى الأدوات التى طورها البشر لفهم العالم من حولهم، حيث ساهم في تفسير الظواهر الطبيعية وتطوير التكنولوجيا. ورغم ذلك فإن للعلم حدودا وقصورا ذاتيا يفرضها منهجه التجريبى الذي يقوم على الملاحظة والفرضيات والتجارب والاستنتاجات وطبيعة المعرفة التى ينتجها. هذه الحدود لا تقلل من قيمة العلم، بل تظهر أن المعرفة الإنسانية متنوعة، ولا يمكن اختزالها في المنهج العلمى وحده. في عام 1933، نشر الكاتب البريطانى جون سوليفان كتابا بعنوان حدود العلم، ليعنى أن العلم وحده به كثير من القصور، وأنه غير كاف للوصول الى المعرفة الحقيقية.

صدرت ترجمة عربية للكتاب باسم آفاق العلم عام 1946، بواسطة الدكتور محمد بدران والدكتور عبد الحميد مرسي. تقع الترجمة العربية في 224 صفحة تشمل مقدمة الترجمة ومقدمة المؤلف، وثمانية فصول هى الكون المتمدد، وفيها يتتبع المؤلف التطور التاريخى للمفاهيم الفلكية عند القدماء وحتى النظريات الحديثة في زمن المؤلف. وعندما تحدث عن العصور الوسطى أهمل إنجازات علماء الإسلام التى امتدت الى أكثر من خمسة قرون.

بعدها تحدث عن مساهمات جاليليو حتى وصل الى نيوتن. يقول: « عندما وصلنا الى نيوتن طلعت علينا شمس الحقيقة كاملة، ذلك أن النظرة العلمية قد بلغت أوجها في شخصه، وقد يكون من العدل أن نقول إن العلم أصبح على يدى نيوتن مجهودا مستقلا بذاته كل الاستقلال». الفصل الثانى عن لغز المادة، وفيه يستعرض المؤلف النظريات المختلفة عن طبيعة المادة عبر العصور المختلفة.

 الفصل الثالث بعنوان شبكة العقل وفيه يناقش دور المنطق والرياضيات في تطور العلم مع تركيز خاص على إسهامات نيوتن وأينشتين. في الفصل الرابع يشرح المؤلف الأصول العلمية ويتناول نظريات النشوء والارتقاء، مع مقارنة بين التفسيرات العلمية والرؤى الدينية مثل قصة الخلق في سفر التكوين. الفصل الخامس بعنوان طبيعة العقل وفيه يستكشف العلاقة بين العقل والمادة. في الفصل السادس يناقش حدود العلم وهو الفصل الذي يحمل عنوان الكتاب وفيه يطرح المؤلف رؤيته النقدية لإمكانات العلم ومعوقاته.

 أهم ما ذكره المؤلف في هذا الفصل، أن للكون ظواهر أخرى غير الظواهر الرياضية، ذلك أن الفنان والمتصوف يعنيان بظواهر في العالم ليست رياضية، بل العلوم نفسها، إذا استثنينا علم الطبيعة وما يتصل به من علوم أخري، تعنى بظواهر لا شك أنها ليست من الظواهر التى تتضح فيها الصبغة الرياضية. من هنا يمكن القول إن كل ظواهر الطبيعة، ما عدا ظواهرها الرياضية من خلق عقولنا، فهى لهذا شخصية محضة. يذكر المؤلف هنا أن جيمس جينز مؤلف كتاب الكون الغامض يرى أن الكون كله كون عقلي، وأنه في واقع الأمر فكرة في عقل الله، وأن العلم لا يعنى إلا بناحية واحدة من نواحى الحقيقة.

 وهو الأمر الذي جعل السير آرثر إدجنتون يقول: « كيف يستطيع العلم أن يتجاهل كل العناصر الأخري، ولماذا ينشئ العلم لنفسه نظاما مقفلا؟، ولماذا لا تتدخل عناصر الحقيقة التى لا يدخلها العلم في نطاقه فتحدث اضطرابا فيه. في الفصل السابع يعطى المؤلف عرضا موجزا للآراء العلمية الموجزة كافية لإيضاح قيم العلم كونه أحد الجهود البشرية. ضرب لنا مثلا أن علم الفلك نشأ من رغبة الإنسان في أن يضع تقويما يفيد المجتمع الزراعى ثم تطور بعد ذلك حتى أصبح تنجيما يقصد به التنبؤ بمصير الإنسان. ثم بين أن الحقيقة في نظر العلم مسألة اعتبارية، فالنظرية العلمية الجيدة تفسر حقائق معلومة تساعدنا على التنبؤ بحقائق جديدة يمكن تحقيقها بعد بالمشاهدة، مثال ذلك نظرية نيوتن في الجاذبية فإنها قد فسرت حركات الأجرام السماوية في حدود المشاهدات التى كانت ممكنة في ذلك الوقت، ثم استطاع العلماء بعدئذ على أساس هذه النظرية التنبؤ بوجود الكواكب الأخرى التى لم تكن معروفة وقتئذ.

 أعطى المؤلف أمثلة كثيرة أخرى منها مصير نظرية الأثير والزمن وغيرهما واختلاف الآراء بخصوصهما، وأنه نتج عن هذا الاختلاف أن انقسم علماء الطبيعة الى طائفتين، وكان له أثر مهم في المعنى المقصود من لفظ «الحقيقة» في نظر العلم، طائفة تأخذ بما يسمى الرأى الاعتبارى والتى هى امتداد لنظرة العالم الرياضى البحت الى علم الطبيعة، وطائفة أخرى تؤمن بأن ثمة مقادير طبيعية توجد مستقلة كل الاستقلال عن طرق قياسنا لها تسمى النظرة الواقعية. يختم هذا الفصل بقوله إن رد الفعل الذي تحدثه فينا أكثر النظريات العلمية هو تقديرنا لما فيها من جمال ولا شيء غير هذا، أما إذا كانت لإحدى النظريات العلمية أهمية فلسفية أو دينية، أو بالاختصار أهمية إنسانية، فإننا نجد في الحال أننا لن نقتنع بها. الفصل الأخير من الكتاب بعنوان «نحو المستقبل»، وشرح فيه أن خير ما أفاده العلم في ترقية إدراك الإنسان هو تلك الأفكار الجديدة التى استطعنا بفضلها أن نفكر فيها.

 فخير ما أفادته نظرية أينشتين مثلا هو أنها قد وسعت من إدراكنا بأن أوقفتنا على طرق للتفكير جديدة وقيمة، ويبقى هذا أمرا عظيما، حتى لو تبين في الغد أن هذه النظرية خاطئة إذا أريد بها أن تكون وصفا للكون من الوجهة الطبيعية. فهى تبقى ذات قيمة بما لها من أثر في رفع مستوى تفكيرنا وقدرتنا على تمييز الفروق العقلية الدقيقة، مثلها في ذلك كمثل القطعة الفنية التى تقدر قيمتها بأثرها في تهذيب شعورنا وإرهافه. إضافة الى تلك القيمة الثقافية للعلم، فإنه قد أعان على تنمية مداركنا بأن جعلنا أكثر إدراكا للكون الذي نعيش فيه.

gate.ahram

اقرأ للكاتب

مصطفى جودة يكتب: كتاب الله المنظور (2-2)

شكرا للتعليق