محمد عمارة يكتب: دفاعٌ عن فلسطين
“إلى فلسـطيـن: تــــلك المُتَسربـِـلة بعطـر الأزليــة… المصلوبة تكفيرًا عن خطايـا البشــريـة… المقتولة غدرًا برصاصـة ما بعـــــد حداثـيـة… المشنوقة ظلمــًا بأيـادٍ صهيونازية… المطعـونة ظَهراً بخنجر الأنظمة القمـعية… انهضي أيتها الرائعة ورتِّلي ترانيـمك الصباحـيــة… أيتها المرابطة على ثغور الكرامـــة الإنسانية… يامن علمتينا أنَّ المجـــرم ليس كما الضحية… أنَّ الحق عليه أن يمُرّ حتمًا من فوهــة البندقيــة… أنَّ الجُرح قد يهزم السكّين إن هو أخلص للقضية… أنَّ الضمير الإنساني هو فلسطينيُّ الهوى والهويَّة”.
ذلك هو نَصُّ إهداء موسوعتي(موسوعة الصراع العربي الصهيوني)، وقد أردت منه تأكيد حقيقة مركزية مفادها أن فلسطين تخوض معركة الشرف والكرامة الإنسانية نيابة عن البشرية كلها، ودفاعاً عن إنسانيتها المُهدرة.
ومن ثم فتأييد الحق الفلسطيني ليس تفضُّلاً على فلسطين والفلسطينيين، كما أن القضية الفلسطينية ليست شأناً داخلياً بل هي وجع العالم كله وأنَّات بقايا ضميره الحي.
فلسطين، في حقيقة الأمر، هي ذلك الجندي المُرابط على الثغور لدحر أعداء الإنسانية ومنعهم من تحطيمها قيمياً، وللتصدي لهذا الزحف غير المقدس لقيم ما بعد الحداثة نحو ضمائرنا وقيمنا الإنسانية الرائعة في محاولة لتقويضها من الداخل.
إذ نعتقد أن هذا الصراع العربي الصهيوني هو في عمقه تجسيد لمأساة البشرية كلها، وإخفاقاتها في تغليب الروح على المادة، والقيمية على النفعية، والحق على القوة، والوردة على السكين، وإن لم يتكاتف الجميع لإنهائه بشكل عادل وإنساني في آن فالأمر مُنذر بعواقب وخيمة.
هكذا يدفع الفيلسوف والمؤرخ الكبير أرنولد توينبي بتلك الفكرة إلى حدّها الاقصي، إذ يقول:”مأساة فلسطين ليست مأساة محلية، بل هي مأساة العالم، فهي ظُلم يُهدِّد السلم العالمي”، ففي عمق تلك المقولة بالغة الدلالة تكمن حقيقة مفادها أن ارتدادات الصراع العربي الصهيوني ستضرب العالم أجمع، فالظلم المفرط والكيل بمكيالين هو أمر من شأنه أن يؤجِّج العنف والإرهاب كقنبلة عنقودية انشطارية، وككرة ثلج مُتدحرِجة من أعلى جبلٍ تكبر يومًا بعد يوم، أو كنظرية الأواني المُستطرقة حيث ينتقل الإرهاب من الأماكن الأعلى إرهابًا(الكيان الصهيوني) إلى الأدنى (سائر العالم).
وإذا ما كانت الحضارة الغربية تحمل بين طياتها معسكرات الموت والإبادة الجماعية، على حدّ تعبير ريتشارد روبنسون، ففي يقيني أن الكيان الصهيوني هو مؤسِّس أكثر تلك المعسكرات جُرمًا ووحشية على الإطلاق، ومن ثم فالتصدي لهذا الكيان الغاصب هو معركة يخوضها الفلسطينيون دفاعاً عن الإنسان بما هو إنسان وعن قيمه التراحمية الخالدة.
فها هو المشروع الصهيوني وقد تم تعميده بالدماء: دماء الفلسطينيين وإخوانهم من العرب، مع حاجته المستمرة لمزيد من الدماء ليواصل نموه وتمدده الشيطاني ككائن دراكولي نهِم، وهكذا عمّدت الحضارة الغربية كل مشروعاتها التوسعية الاستيطانية، وهكذا ستفعل مستقبلًا عبر إنتاج مشروعات استيطانية جديدة إن ظلت تسير بذات الاتجاه وتتبنى نفس القناعات.
إن في إنهاء هذا المشروع الاستعماري وتصفيته فائدة كونية، حتى لليهود أنفسهم، فليس من المبالغة القول أن: اليهود كأمة على حافّة الانتحار إذا ما ظلت قوى الدفع تسير بذات الاتجاه دون تدخُّل من أحد.
فاليهود محاصرون بين انتحارين: انتحار مادي وجودي: إذ أنهم على وشك التورط، بفعل ممارسات الكيان الصهيوني الإجرامية، في معارك وحروب مُميتة، من شأنها القضاء على معظم الوجود اليهودي على الأرض. وانتحار روحي قيمي: أي ذوبان مُطلق في الطرح المادي للصهيونية، وفُقدان ما تبقّى من الرسالة الروحية الأخلاقية لليهودية كديانة سماوية.
وقد قطعوا بفعل الصهيونية أكثر من نصف الشوط في كلا الاتجاهين.
إن ما نُريد له الانتحار هو الفكر الصهيوني بكل تجلياته العنصرية ونزوعه الإجرامي، لتتخلص اليهودية واليهود منه، وتنجو الإنسانية من بين براثنه، يقول المفكر الألماني إدوارد بيرنشتاين:”الصهيونية أشبه بالمُسكرات وتعاطي المخدرات الذي يفعل فعله كالوباء”، إذ تُفقد اليهود عقولهم، تُفقدهم قيمهم وروحهم التي ادَّعوا أنها طالما حفظت وجودهم وهويتهم طويلاً.
لقد انتقل اليهود بفعل الأطروحات العنصرية من وضع الجماعة المؤمنة إلى وضع الجماعة الوظيفية ذات المهام القذرة ، وأخيراً وضع الدولة الوظيفية ذات المهام الأكثر قذارة، في ظل تصاعد معدلات الصهينة بينهم، إذ تضخم الدور المُشين الذي أوكلتهم الحضارة الغربية به بقدر النقلة ما بين الجماعة والدولة، تلك هي إسرائيل ما بعد الحداثة وعصر السيولة حيث نسبية القيم وتدثُّرها بنفعيِّة مقيتة.
إن الغوص في أكثر مستويات التحليل عمقاً هو أمر من شأنه أن يخبرنا أن تأثير الصهيونية المدمر لا يقتصر على الديانة اليهودية واليهود فحسب، بل يزحف فكرها العنصري والمدنس على العالم في موجات ارتدادية هائلة، لتصيبه لعنة الشيفونية والعداء المُزمِن للآخر.
من هنا أهمية ممارسة ضغوط حقيقية على هذا الكيان الغاصب، وفي القلب من هذه الضغوط تأتي المقاومة الفعلية للمُغتصِب كأكثر الأعمال نُبلاً وأخلاقية على الإطلاق، إذ تبقى التضحية بالنفس من أجل الأوطان هي قمة مشاعر السمو الإنساني، فمن شأنها أن تُبقي جذوة التوق الإنساني لتحقيق العدل متقدة على هذا الكوكب.
واحدة من الحقائق التي تطل برأسها في هذا السياق، هي أن هذا الصراع العربي الصهيوني ليس صراعًا دينيًا كما يزعم البعض، ولكنه في عمقه صراع براجماتي نفعي يضرب بجذوره عميقًا في قلب الحضارة الغربية(تلك الحضارة التي بلا قلب)، غير أنه متدثر بعباءة الدين ببراعة فائقة، بشكل أعمى كثيرين عن قراءته بشكل حقيقي.
فهو صراع يُجسِّد كل إخفاقات الحضارة الغربية في طورها ما بعد الحداثي، فلا عجب إذن أن يدشِّن كثير من المفكرين الكبار أطروحاتهم العظيمة بتحليل ودراسة هذا الصراع، ومن ثم ينطلقون لبلورة رؤية إنسانية عامة، لعل أقرب الأمثلة: جمال حمدان، وإدوارد سعيد، وعبد الوهاب المسيري، وزيجموند باومان، وناعوم تشومسكي، وحنا أرندت وغيرهم.
هو إذن هَمُّ الإنسانية جميعها، هو عورتها التي تبحث عمن يسترها، هو مكبوتاتها الحيوانية وقد تفجَّرت في أبشع صورها.
ومن ثم وفي مقابل (حق القوة) والذي تُمثِّله إسرائيل، ومن خلفها الصهيونية العالمية، نُريد التأسيس لـ (قوة الحق)، والذي يُمثِّله الفلسطينيون وكل دُعاة الإنسانية.
والسؤال الذي يُطَلّ برأسه الآن: ماذا سيحدث لو تم إنهاء هذا الصراع العربي الصهيوني وحله حلًا عادلًا وإنسانياً في آن؟
في اعتقادي أن ذلك لو حدث، هو أمر من شأنه أن يفضي إلى تراجع الإرهاب العالمي وتقلُّصه لحدِّه الأدنى، سندلُف إلى عالم جديد، فحل هذا الصراع بهذا الشكل العادل والإنساني قد يقود لبداية مصالحة حضارية كبرى بين الشرق والغرب.
تؤكد الدراسات العلمية التاريخية أنه قبل ظهور الكيان الصهيوني الفجّ والوقح في المنطقة العربية كانت تلك المنطقة تتسم بسيادة القيم الإنسانية الرائعة، كالتسامح والتراحم والتلاحم الاجتماعي والتدين الوسطي البعيد عن العنف، غير أنه وبمرور الوقت وتزامناً مع انغراس هذا الكيان الغاصب في لحم المنطقة العربية استشرت مظاهر التطرف الديني والتشدد والتعصب وتفاقمت الفتن الطائفية.
كما يؤكد الباحث اليهودي المعادي للصهيونية إسرائيل شامير (Israel Shamir) على النزعة العدائية للعالم أجمع ورغبة السيطرة عليه لدى الصهاينة، تلك النزعة التي تفشَّت كعدوى وبائية أصابت الآخرين، فيقول:”إن فلسطين ليست الهدف النهائي للصهاينة بل إنه العالم أجمع″ .
فالحقيقة أن الكيان الصهيوني لن يترك العالم وشأنه، فالقناعة النائمة في أعماق أعماقه أنه لن يُكتب له الاستمرار والوجود في محيط ديمقراطي ومن ثم عليه اغتيال الديمقراطيات الوليدة في مهدها، كما أنه يخشي وجود دول قوية وموحدة لذا يتبنى سياسية تفتيت وبلقنة البلدان عبر تعميق تناقضاتها الدينية والعرقية والطائفية وصولاً لسقوطها النهائي.
من هنا فإن مساندة الحق الفلسطيني ليست ترفاً إنسانياً، بل هي حتمية وجودية على الجميع أن يمتثل لها.
فلسطين، في التحليل الأخير، هي تلك المطرقة التي تدق على الضمير العالمي لتوقظه كلما خلد إلى النوم، هي قلب الإنسانية النابض الذي يرشدنا إلى أن تلك البشرية لازالت تعج بالحياة، هي ترمومتر الكرامة الإنسانية الذي على وقعه نضبط ساعة كبريائنا، هي ميدان العالم الذي على الجميع أن يُبقيه مُرتَّباً وهادئاً وجميلاً.
عاشت فلسطين حرة، تلك الجميلة التي يتنفس العالم من رئتيها هواءً عبقاً بأريج الكبرياء والكرامة.
اقرأ للكاتب
محمد عمارة يكتب: منظمة جبل الهيكل والعدوان على المسجد الأقصى