زياد دكاش يكتب: تعميق الهدوء وسط عواصف الأحداث
تلبّدت سماء بلدنا الحبيب والبلدان المجاورة بغيوم المصاعب، وأمطرت صدمات وعي… اشتكى البعض من توقيتها، واستخلص البعض الآخر عبرًا منها، وخُيّل إلى العديد أنّها عاصفة عابرة، لكنّها لم تنفرج عن أوجه العيش كافة، اقتصاديًّا، وطنيًّا، وعالميًّا…
وفي زمن التحدّيات، عبثًا يحاول المرء أن يهدّئ عواصف الأحداث الخارجية، أو أن ينتظر ارتحال شتائها، إن لم يهدّئ انفعالاته الداخليّة ويعدّل مسلكه المعتاد… لأنّ العواصف الخارجية لا تأتي إلا وفق درجة وعيه، في سبيل صقل الوعي من خلال المواجهات الداخلية قبل الخارجية… وتزداد الصعوبة في احتواء أيّ تحدّيات خارجية تطلق العنان بدورها لانفعالات داخليّة تعكّر صفو الهدوء الداخلي…
الهدوء الداخلي، التوازن النفسي والانفتاح على التفاعل مع كلّ تجربة، هي عوامل تجعل من مواجهة الأحداث شراعًا يستخدم دفع الرياح العاتية في التقدّم على مسار التطوّر… ما يعتق أيضًا الفكر من مخاوفه ليتمكّن من استيعاب سبب ما يجري من مصاعب ومنغّصات. قد يعترض البعض قائلًا إنّ رياح التجارب القويّة تمزّق الأشرعة، فيما هي تمزّق الأقنعة، وتكشف الحقائق، ولو كان وقعُها أليمًا، فيساهم الفهم في تعزيز السلام الداخلي…
وفي هذا السياق، قرأتُ عبارة ملهمة عن سرّ تحقيق ذلك السلام الداخلي في “كتاب الإنسان” للمعلّم د. جوزيف ب. مجدلاني (ج ب م) ص ۱٧٥: “السلام الباطني حالةٌ نعيها عندما تتنقّى النفس من الشوائب، حين تتخلّى عن القلق، وتنبذ البغض، وتقضي على الكفر. السلام الباطني سكينةُ النفس من صخب المادة، وتوق الروح الى السلام الأبدي. نشوة تنتاب الروح حين تغوص في سكينة الذات، حين تتأمل نفسها وخالقها”.
هدوء العواصف الداخلية هو بمثابة صفاء في مدارك الإنسان، تنفذ عبره أشعّة النور، حتى لو أحاطتْ بالمرء تحدّيات مظلمة… فيبادر إلى تفعيل انتشار ذلك النور على حساب عتمة أفكاره ومشاعره السلبيّة، بدلًا مِن إلقاء اللوم على الظلمات من حوله… والهدوء يشكّل فضاءً يتلقّف الاستلهام، ولو أضاءته بروق الأحداث، التي تشقُّ سواد الركود في سبيلِ التغيير الداخلي… لكنَّ الهدوء الداخلي الواعي هو الأهم، مقارنةً مع الهدوء الخارجي الذي قد لا يكون سوى ستارةٍ يُسدِلها الصمت أو الكبت، كليلٍ يُخفي في عتمته تلبّد السماء!
من هنا كانت أهميّة تثبيت الوعي حكمةً في النفس، وتعميق الهدوء سلامًا داخليًّا فيها! كتاب الإيزوتيريك “تعرّف إلى وعيك” الطبعة الخامسة، بقلم المعلّم (ج ب م)، يقدّم طريقة عمليّة لتثبيت الوعي وتعميق الهدوء في صفحة ٧٠: لنفترض أنّ شخصًا ما يعمل على إزالة صفة سلبيّة كالعصبيّة أو الغضب السريع. هذا الشخص يبدأ التعامل مع الوعي بحيث يعمل على تضميخ نفسه بالهدوء كصفة إيجابيّة في كيانه. لكن، ليتأكّد من تثبيت الهدوء عميقًا في نفسه، يطلق وعي الباطن بين الحين والآخر ما من شأنه أن يثير العصبيّة والغضب. فيكون الانفعال السريع سهلًا جدًا إلى حدّ أنّه قد يطرد ذبذبات الهدوء التي كان المرء قد اكتسبها سابقًا، وبالتالي ذبذبات الوعي”.
إنّ السلام الداخلي الناتج عن تفتّح الوعي وفهم الأسباب وراء النتائج، لا يُترجم صمتًا عندما تحين المواجهة، سواء كانت مواجهة خارجيّة أو داخليّة، بل هو أحد مستلزمات المواجهة التي لا تشوبها انفعالات السلبيات ولا المصلحة الشخصيّة، بل يدعمها المبدأ الجليّ والمنطق المترابط في جوّ الهدوء الداخلي… وهذه المواجهة الواعية تعزّز بدورها الهدوء في العمق بعد أن تحقّق هدفها، وتشكّل تثبيتًا للوعي في النفس، تثبيتًا لما طبّقه المرء عمليًّا بعد أن اقتنع به نظريًّا. وكتاب “تعرّف إلى وعيك” يشرح أيضًا في هذا الإطار أنّ “المرحلة الأولى من اكتساب الوعي (وعي الهدوء في هذه الحال) يبدأ نظريًّا بالاقتناع به… على أن تليها مرحلة التطبيق العملي التي تثبّت في الكيان ذلك الوعي النظري المطلوب أوّلًا”.
ختامًا، يجدر التوضيح أنّ الهدوء الداخلي وسيلة تساعد على تحقيق الأهداف، لكنّه ليس هدفًا بحدّ ذاته؛ إنّه حالة تساعد على استعادة التوازن أو تلقّف الجديد، أو التحضّر لمواجهة النفس والتحدّيات… الهدوء كبلسم مؤقّت (حبّة دواء)، لا يزيل السبب، بل يعطي المرء فرصة تهدأ فيها انفعالاته ليتخذ مسارًا جديدًا، بمنظار فكري جديد ونشاط متجدّد… الهدوء ليس سوى عتبة الدخول إلى السلام الداخلي الحقّ… لأنّ الطمأنينة الفعليّة لا تُبنى إلا على أساس الفكر الخيّر والفهم.
إقرأ للكاتب
زياد دكاش يكتب: أدب الرحلات الباطنيّة