مصطفى جودة يكتب: أسباب انتصارات رمضان «2ــ2»

أ.د: مصطفي جودة

رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا

«يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون» 183 ــ البقرة. إذن الصوم عبادة حيثيته الأولى أنه فرض وعلته تحقيق التقوى من وراء فرضه والتى أوصى الله بها أيضا السابقين حيث يقول: «ولله ما فى السماوات وما فى والأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله..» 131 ــ النساء.

ويعود السبب وراء هذه التوصية الى إصلاح الدين والدنيا للعباد وتحقيق الغاية من الحياة والعيش بعزة وتحقيق النصر على النفس والأعداء. إذن لم يكن الأمر وليد الصدفة، اختيار العاشر من رمضان لحرب أكتوبر، أو الخامس والعشرين من رمضان لشن موقعة عين جالوت وكلاهما كلل بالنصر المبين على عدوين لدودين أولى بأس شديد.

التقوى خاصية تراكمية وبالتالى يزيدها الصوم عاما بعد عام. يصوم الإنسان من صغره فتنبت فى قلبه بذور التقوى وتبدأ فى النمو عاما بعد عام فتصلح حياته وتهون عليه صعابها، ويرضى بما يحدث له فى كل شئون حياته ولا يخشى الموت ويشتاق إلى لقاء ربه. يعرفها الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله تعريفا جامعا فى كتابه تفسير القرآن الكريم: تقوى الله تعالى فى معناها العام ترجع الى اتقاء الإنسان كل ما يضره، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة فى الدنيا والآخرة وليبلغ الإنسان الكمال الممكن والغايات الحسنة.

هى ترك جميع ما نهى الله عنه وفعل ما يستطاع من الخير والطاعة، والتقوى ليست خاصة بنوع من الطاعات ولا بشىء من المظاهر، وإنما هى اتقاء الإنسان كل ما يضره فى نفسه وفى جنسه وما يحول بينه وبين الكمال الممكن.

وللتقوى ثمار منها حصول الفرقان الذى يفرق به المرء بين الخير والشر والضار والنافع فى هذه الحياة، فالعلم الصحيح والقوة والعمل النافع والخلق الكريم وما الى ذلك من آثار التقوى، فالتقوى هى الشجرة والفرقان هو الثمرة.

وقد كان الأمر بالتقوى شأنا عاما على ألسنة جميع الرسل، كما أن موجبات تقوى الله والخوف منه عامة فى جميع الأمم، وبذلك التقى الرسل أولهم مع آخرهم على هذه الكلمة. من هنا فإن اختيار رمضان لشن كل من عين جالوت والعاشر من رمضان هو اختيار عبقرى.

 كان قبلهما غزوة بدر فى السابع عشر من رمضان وكذلك فتح مكة فى العشرين من رمضان ومعارك أخرى كثيرة . يقول الإمالم على رضى الله عنه: سادة الناس فى الدنيا الأسخياء وسادة الناس فى الآخرة الأتقياء. والتقوى ليست بالأمر الهين ولكنها غاية المنى والنجاح للمؤمن. هناك نماذج عديدة للتقوى أسوق بعضها هنا. أولها الصحابى أبى بن كعب الذى عندما سأله عمر بن الخطاب عن معنى التقوى أجاب: أما سلكت طريقا ذا شوك؟، فقال بلى، فقال ما فعلت؟، فقال شمرت واجتهدت، فقال كعب فذاك التقوى. يستطيع الإنسان من خلال تطبيق هذا النموذج الذى يشبه الأجهزة المتقدمة تمكنه من رؤية أشواك الطريق وأشواك الهوى والمطامع فيتجنبها، وكأن التقوى جهاز حساس يقود النفس ليجنبها كل أشواك الحياة، ومن لا يرى هذه الأشواك فهو إنسان شبه أعمى لم يصل بعد للتقوى ويتعين عليه إصلاح نفسه أكثر.

ولأن المؤمن يصوم رمضان كل عام فهو يحدث أجهزة التشخيص بداخله ويراها رأى العين ويرى أنه سيصبح سيدا بها وفريسة بدونها. وللإمام القشيرى نموذج جميل عن التقوى فى الرسالة القشيرية يقول فيه: التقوى عمل بطاعة الله على نور الله مخافة عقاب الله. والتقوى على وجوه فهى للعامة تقوى الشرك، وللخاصة تقوى المعاصى، وللأولياء تقوى التوسل بالأفعال، وللأنبياء تقوى نسبة الأفعال، إذ تقواهم منه إليه.

للتقوى خريطة يجب معرفتها وأسرار الوصول اليها لأن ذلك هو الطريق الأضمن لمعرفة الله عز وجل ومحبته والوصول إليه وهى لقب لا يمنحه أحد سوى الله عز وجل لمن يستحقه. بداية لا يوجد تعريف مباشر للتقوى فى القرآن وفى السنة النبوية ولكن توجد تعريفات للمتقين منها: «ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون».

هذه الآية الكريمة تعرف البر بدقة وشمولية وتشير الى العلاقة بين الصدق والبر والتقوى بنص الحديث النبوى: الصدق يهدى الى البر والبر يهدى الى الجنة ولا يزال العبد يصدق حتى يكتب عند الله صديقا، والكذب يهدى الى الفجوروالفجور يهدى الى النار ولايزال العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذابا. هناك أيضا مقولة لعمر بن الخطاب تربط بين البر والتقوى: التقوى خير البر والتقوى من الصبر.

من كل ذلك يمكن رسم خريطة التقوى بوضوح: التزم السير فى طريق الصدق حتى تصل الى ميدان البروبعده ستجد طريق التقوى.

التقوى أيضا سلاح وعدة مثلما ذكر ابن عبد ربه فى العقد الفريد أن عمر بن الخطاب كتب الى سعد بن أبى وقاص قبل غزوة القادسية ناصحا وآمرا: أما بعد فإنى أوصيك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة فى الحرب. من أجل ذلك تم تحقيق النصر فى عين جالوت وفى العاشر من رمضان. هو وعد الله القائل:«استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» 128 الأعراف.

gate.ahram

اقرأ للكاتب

مصطفى جودة يكتب: أسباب انتصارات رمضان «1ــ2»

شكرا للتعليق على الموضوع