قضية فلسطين في سياق النظام العالمي
لماذا هي مهمة للنظام الاستعماري في العالم؟!
ولماذا يستخدم كل قوته ضد الشعب الفلسطيني؟!
ما يجري هذه الايام من جرائم الابادة والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني كشف بشكل ساطع ان من يستعمر فلسطين هو الاستعمار العالمي الذي تقوده في هذه المرحلة الولايات المتحدة الاميركية ومعها اوروبا وكل القوى الاستعمارية في العالم. وليس فقط الذراع الذي يقوم بالمهمة بشكل مباشر وهو الحركة الصهيونية التي هي جزء من الاستعمار العالمي.
احيانا التعمق في التفاصيل يضيّع البوصلة ويشوش الفهم الاستراتيجي، لذلك هناك حاجة للعودة للجذور وللسياق التاريخي الذي تطور فيه النظام الاستعماري العالمي وخاصة الأوروبي الرأسمالي.
عاشت اوروبا في القرون الوسطى صراعات دموية وتخلف. وادى التناحر بينهم الى نتائج دموية فظيعة.
وكانت خياراتهم اما الاستمرار في الصراعات الدموية بينهم واما البحث في اسبابها والتخلص منها.
ظهور الثورة الصناعية لديهم قبل غيرهم والتي ادت ضمن اسباب اخرى الى البدء بالانتقال من النظام الاقطاعي الى الرأسمالي اعطتهم الافضلية على القارات الاخرى، رغم صغر مساحتهم الجغرافية مقارنة بقارات اخرى.
استطاع الفلاسفة وعلماء السياسة والاقتصاد والاجتماع لديهم تحديد الاسباب التي تعرقل تطورهم وتسبب الصراعات.
١- انظمة الحكم القائمة التي استمرت في الحكم الملكي الوراثي.
٢- السلطة الواسعة التي تمتلكها الكنيسة ورجال الدين.
٣- الصراعات العرقية والإثنية.
٤- الصراع على الخيرات والمواد الخام والثروات.
٥- الفقر الذي يتسبب في كثير من الصراعات.
وعليه استطاعوا الوصول الى علاجات لهذه الاسباب لضمان استقرارهم وتطورهم.
فصلوا الدين عن الدولة وذلك للحد من سلطة رجال الدين والكنيسة وتدخلاتها في انظمة الحكم.
قاموا بتغيير او تقليص سلطة العائلات الملكية التي ورثوها من النظام الاقطاعي وانشاء انظمة سياسية تواكب التطور الصناعي والنظام الاقتصادي الرأسمالي.
ولعلاج الصراعات الاثنية والعرقية والثقافية واللغوية وتخديرها طوروا الدولة الاقليمية الحديثة كحل مرحلي لحقبة زمنية، وحددوا حدودا جغرافية لكل دولة بعدة طرق نظموها من خلال دساتير وقوانين حديثة من ضمنها كان اللجوء الى أنظمة فدرالية وكونفدرالية.
صحيح ان كل ذلك انهى الى حد كبير معظم الصراعات. الا انه لم يحل مشكلتين بدون حلهما لا يمكن لهم ان يحافظوا على استقرار النظام الرأسمالي ويتطوروا.
مشكلة الفقر لدى قطاعات واسعة في المجتمع، ومشكلة المواد الخام والثروات التي بدونها لا يمكن للتطور الصناعي والرخاء ان يستمر.
وضعوا قوانين للحد من الفقر المدقع ولضمان حياة مقبولة لاغلبية المواطنين مما يخفف الى حد كبير من الصراع الاجتماعي الطبقي الاقتصادي لكن بما لا يؤثر على مواصلة هيمنة الطبقة الرأسمالية على النظام الشامل في كل دولة. وحلوا مشكلة عدم اشتراك نصف المجتمع (النساء) في الانتاج من خلال إشراك المرأة في العمل والانتاج.
ولحل مشكلة الثروات الطبيعية والمواد الخام الضرورية لمواصلة الصناعة وتطويرها والهيمنة على النظام العالمي، لجأوا الى استعمار الدول غير الصناعية في القارات الاخرى. ومنحتهم الثورة الصناعية القدرة على تطوير القدرات العسكرية التي تمكنهم من الاستعمار.
ولكن التفوق العسكري وحده لا يؤمن استمرار الاستعمار. ولخبرتهم السابقة في اسباب ضعف الامم وتناحرها كما كانوا هم سابقا، استطاعوا نقلها وتعميقها لدى الشعوب الواقعة تحت استعمارهم.
نجحوا نجاحا كبيرا في استعمار استراليا وامريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) من خلال ارتكاب جرائم الابادة والتطهير العرقي. وكذلك وان بشكل مختلف في استعمار امريكا اللاتينية وجنوب افريقيا.
وامتد التوسع الاستعماري بأشكال مختلفة الى كثير من دول افريقيا واسيا.
في القرن التاسع عشر وخاصة النصف الثاني منه. بدأت تظهر بوادر المشاكل الاقتصادية الاجتماعية للنظام الرأسمالي. فحركة التاريخ لا تتوقف وفيها لا تتوقف حركة تطور النظم الاقتصادية الاجتماعية السياسية، خاصة وان بنية النظام الرأسمالي وعلاقات الانتاج فيه تخلق نقيضها.
خلال تلك المرحلة تعمقت صفة الاستعلاء العنصري الاوروبي على الشعوب الاخرى (عنصرية البيض). وعمقها التطور الصناعي والمستوى الاقتصادي. وانتشرت بينهم جميعا بغض النظر عن الافكار الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. (طبعا لكل قاعدة شواذ).
ومع تزايد الصراع بينهم على الثروات والنفوذ استشرسوا اكثر في استعمار الدول غير الاوروبية.
الى ان اندلعت الحرب العالمية الاولى بهدف تقاسم النفوذ والهيمنة.
خلال الحرب كان واضحا ان الامبراطورية العثمانية ستنهار، فاتفقت قوى الاستعمار الاوروبي فيما بينها على كيفية تقسيم مناطق نفوذ العثمانيين بعد انهيارهم، معتبرين ان اكبر انجاز سيكون استعمارهم الدائم لمنطقة الشرق الاوسط.
كانوا قد انجزوا بنجاح (من خلال الجرائم) استعمار دائم لا تراجع عنه لامريكا واستراليا واحلال مستعمريهم مكان الشعوب الاصلية.
بعد الحرب العالمية الاولى ظهر في روسيا نظام اقتصادي اجتماعي جديد اصبح ينافس النظام الرأسمالي القوي. لكن سرعان ما ابتعد عن الأفكار الايديولوجية للماركسية الاشتراكية في ممارساته السياسية حيث برز الاستعلاء الروسي للسيطرة على الدول المجاورة تحت شعار نشر الثورة الاشتراكية وفرض الروس على الدول المجاورة الطاعة للقرار الروسي وامتد هذا الفرض على الاحزاب الشيوعية والاشتراكية في مختلف الدول. وايد الاتحاد السوفياتي الاستعمار حين يكون المستعمر تابعا له، وايد ودعم استعمار فلسطين. ذلك بحجج مقارعة الاستعمار الرأسمالي والصراع معه على مناطق النفوذ.
في تلك الفترة عمل الاستعمار الرأسمالي على تطوير اساليبه بتسارع ضمن فهم بعيد المدى بان الاستعمار العسكري المباشر لا يمكن ان يستمر في المستقبل. لكنهم بحاجة للاستمرار في نهب الثروات والمواد الخام من الدول الاخرى من خلال استمرار هيمنتهم عليها وان بدون الاحتلال العسكري المباشر.
استعمار فلسطين
بعد ان استقر الاستعمار الاوروبي الدائم في امريكا الشمالية واستراليا وحولها، وبعد الهيمنة والاستعمار في دول اخرى كثيرة في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية. وظهور ايديولوجيا اشتراكية منافسة للرأسمالية. ولفهمهم الاستراتيجي بعيد المدى بان الاستعمار بشكله الكلاسيكي لا يمكنه الاستمرار خاصة مع انتشار حركات التحرر الوطني. كان عليهم التفكير بشكل خلاق لمواصلة الهيمنة ونهب الثروات.
اعتبروا ان الهيمنة الدائمة على الشرق الاوسط من خلال زرع مستعمرة دائمة لهم فيه ضرورة قصوى تتطلبها مواصلة الاستعمار بشكل غير مباشر على مناطق محيطة اخرى، ولاحقا لتقوية النظام الرأسمالي في صراعه مع النظام الاشتراكي.
اسسوا في اوروبا حركة عنصرية هي الحركة الصهيونية والتي تمثل اليهود الرأسماليين العلمانيين وكانت الارضية خصبة لها بوجود افكار الصهيونية المسيحية التي كانت ظهرت منذ فترة حكم نابليون. واستغلت هذه الحركة، الديانة اليهودية وظروف اليهود في اوروبا وخاصة الشرقية لتسويق فكرة اقامة مستعمرة لهم متحالفة مع الاستعمار الاوروبي. وقرروا اقامتها في فلسطين لاهميتها الجغرافية والتاريخية والدينية.
اعتبرت قوى الاستعمار العالمي ان زرع مستعمرة دائمة لهم في فلسطين يؤمن لهم مواصلة الهيمنة والسيطرة على الثروات في الشرق الاوسط ويقوي نظامهم العالمي. ولانهم يعرفون ان تكرار الشكل الاستعماري الذي استخدموه في امريكا واستراليا غير ممكن في فلسطين، لا من حيث المكان ولا من حيث الزمان، فان استخدام حركة اليهود الاوروبيين الصهيونية والاساطير الدينية لاستعمار فلسطين بشكل دائم يعد فرصة ذهبية تحقق الاهداف الاستراتيجية بعيدة المدى للهيمنة على المنطقة لأطول فترة ممكنة.
نتائج الحرب العالمية الاولى التي اقتسموا فيها مناطق النفوذ لم تكن مرضية لكل دول الاستعمار الاوروبية فكان لا بد من حرب ثانية لفرض تقاسم جديد.
بعد الحرب العالمية الاولى بدأ الاستعمار عملية تطوير هائلة لانماط وادوات عمله على مستوى العالم بخلق شركات خارقة للحدود والقارات، وهيئات دولية تحت سيطرتها لاستخدامها في تحقيق اهدافها ومؤسسات اعلامية وفنية ضخمة ومؤسسات دولية متخصصة ومراكز ابحاث دولية واقليمية ومحاكم دولية دائمة ومؤقتة واحلاف عسكرية دولية واقليمية وخلق انظمة حكم محلية تابعة لها تؤمن استمرار هيمنتها.
والاذكى انها جذبت القوى غير الخاضعة لها لتكون جزء من هذه المنظومات وتعمل ضمن محددات هذه الانظمة التي وضعتها قوى الاستعمار.
بعد الحرب العالمية الثانية نضجت الظروف لزرع الدولة الاستعمارية الدائمة في فلسطين.
سخّرت قوى الاستعمار العالمي جميعها كل امكانياتها واستخدمت كل اذرعها لخلق دولة اسرائيل كدولة استعمار اوروبي في فلسطين.
استخدمت الامم المتحدة والمؤسسات والشركات الدولية ووسائل الاعلام وكذلك الانظمة التابعة لها في المنطقة.
الاستعمار العالمي الرأسمالي بعد تأسيس اسرائيل
نجحت قوى الاستعمار بكل الطرق الجهنمية في تثبيت استعمار فلسطين كحقيقة دائمة وجعلت كل الدول تبحث عن حلول تبقي فلسطين تحت الاستعمار.
كي يبقى الوضع كذلك كان عليهم ان يخوضوا عمليات معقدة لتبقى شعوب المنطقة ضعيفة وايصال الشعوب العربية الى الاقتناع العميق في الوعي واللاوعي بان الحضارة الغربية هي المعيار وهي المتفوقة وان عليهم الاقرار بذلك والتشبه بتلك الحضارة والخضوع لها. وزرع الفتن الطائفية والعرقية بينهم وتجديدها باستمرار.
الى ان أصبح الجميع بما في ذلك الشعب الفلسطيني يبحث عن حل لا ينهي استعمار فلسطين بل جزء منها.
ومن ناحية اخرى ولمواصلة التحكم بشعوبهم حولوا اغلبية مواطنيهم الى الات انتاج كل يعمل في ميدانه ولا يفكر في القضايا العامة والجمعية.
لكن مرة اخرى كلما تطور النظام الرأسمالي الامبريالي ازداد توحشا وخلق مزيدا من التناقضات الداخلية. فالتطور التكنولوجي حوّل العالم الى قرية صغيرة يستطيع فيها الناس الوصول الى المعلومات بسهولة.
استمرت هذه التفاعلات والتراكمات الى ان وصلنا الى ٧ اكتوبر. احداث اكتوبر ٢٠٢٣ في فلسطين يمكن تشبيهها بعملية ليزك تصحيح نظر جماعية للعالم.
حيث فتحت عقول الجميع وخاصة مواطني دول الاستعمار على حقيقة ما يجري في فلسطين. وخوف الدول الاستعمارية على إنجازاتها في المنطقة جعلها تشارك بكل قواها وبوقاحة معلنة وعلى رؤوس الاشهاد في عملية ابادة جماعية لشعب، بدون اي ضوابط اخلاقية او قانونية او إنسانية. زاد من فرص نجاح عملية الليزك لتصحيح النظر والمفاهيم العالمية حول حقيقة الاستعمار في فلسطين.
ما المطلوب فلسطينيا الان؟
اولا: التركيز على ان قضية الاستعمار في فلسطين ليست بين شعب فلسطين ويهود العالم بل ان اليهود استخدموا من قوى الاستعمار كحطب لتنفيذ اهداف استعمارية. وكون المستعمرين الاوروبيين في فلسطين يعتنقون الدين اليهودي لا يغير في حقيقة انهم مستعمرين اوروبيين.
ثانيا: ان التخلص من الاستعمار في فلسطين هو ضرورة لإحلال السلام والاستقرار في المنطقة بما يضمن حرية شعوبها وان الخطر لن يزول عن دول المنطقة الا بالتخلص من الاستعمار في فلسطين.
ثالثا: بناء اوسع تحالف فضفاض مع كل من يقف ضد الاستعمار في كل العالم بغض النظر عن الدين والعرق والثقافة والقناعات الايديولوجية. بما في ذلك مواطني الدول الاستعمارية أنفسهم. من اجل انهاء الاستعمار في فلسطين.
وهذا يتطلب اعطاء دور اكبر لجيل الشباب بديناميكيتهم وقدراتهم العصرية.
رابعا: رفض اي حل يبقي فلسطين او جزء منها تحت الاستعمار العنصري الصهيوني الأوروبي. والعمل على حل كالذي تم في جنوب افريقيا يخلص فلسطين من الفكر الصهيوني العنصري الاستعماري ومن التبعية لدول الاستعمار الغربي ويحرر الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة لكل الفلسطينيين من كل الاديان.
خامسا: التحول الجاري في العالم الذي سينهي سيطرة القطب الواحد على النظام العالمي يجعل التخلص من الاستعمار في فلسطين اسهل من اي فترة سابقة.
اقرأ ايضاً
عملية طوفان الأقصى – 7 أكتوبر 2023 وما بعدها (4 – 4)