البحرين تغرق في نكتة ماليزية

عبدالله بوقس – ماليزيا
تقرير: عبدالله بوقس

صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور

في مايو الماضي، وخلال زيارة وفد وزاري بحريني رفيع المستوى إلى ماليزيا، قرر وزير الاستثمار والتجارة والصناعة الماليزي تنكو ظفرول عبد العزيز أن يضفي لمسة طريفة على أجواء الاجتماعات الرسمية. فعلى صفحته في الفيسبوك، كتب لغزًا شهيرًا بين الماليزيين “ما هي الدولة التي تغرق أولًا ثم تمطر؟”، ثم يجيب “البحرين”. الجملة الأصلية صيغت بمزيج من الملايوية والإنجليزية “Negeri mana yang banjir dulu, baru hujan? Bahrain!”، وهي مبنية على تلاعب لفظي بين كلمة “Bah” وتعني (فيضان) بالملايوية، وكلمة “Rain”  وتعني (مطر) بالإنجليزية.

هذا اللغز معروف في الثقافة الشعبية الماليزية منذ سنوات طويلة، لكنه عادة يقال في الأوساط غير الرسمية، بين الأصدقاء أو الزملاء، كوسيلة لإشعال أجواء مرحة. غير أن المثير هنا أنه انتقل للمرة الأولى إلى سياق دبلوماسي رسمي، مع وفد يمثل دولة عربية خليجية، وفي منشور علني على صفحة وزير في الحكومة.

الوزير أوضح أنه كان يحب الألغاز منذ طفولته، وأن هذا اللغز بالذات ظل عالقًا في ذاكرته، لكنه تذكره فور لقائه بوزيرة التنمية المستدامة البحرينية نور بنت علي الخليف، التي كانت ترأس الوفد، ما جعله يربط المزاح بموضوع اللقاء الذي تمحور حول تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين. وهنا، يصبح المزاح جزءًا من الخطاب الدبلوماسي، لا مجرد طرفة عابرة.

المزاح بين الثقافة والتأويل

لفهم هذه اللحظة، يجب الانتباه إلى أن المعنى لا يتشكل من الكلمات وحدها، بل من السياق الذي تُقال فيه. برونيسلاف مالينوفسكي، في دراسته الكلاسيكية “The Problem of Meaning in Primitive Languages”، يؤكد أن الكلمات تفقد معناها أو تكتسب معاني جديدة عندما تنتقل من بيئتها الأصلية إلى بيئة أخرى. وفي حالة “نكتة البحرين”، فإن المتلقي الماليزي يدرك فورًا أنها مجرد دعابة بريئة، بينما المتلقي العربي قد يحتاج إلى شرح الخلفية اللغوية ليضعها في إطارها الصحيح.

هذا الاختلاف في التلقي يجعل المزاح اختبارًا حيًا للخطاب الدبلوماسي، لأنه يضع المتحدث أمام تحدي “جغرافيا المعنى”: كيف ستُقرأ كلماته خارج حدود ثقافته؟ في هذه الحالة، أظهر الجانب البحريني تفهمًا عاليًا، ولم يصدر أي رد فعل سلبي رسمي أو إعلامي، مما عكس متانة العلاقات بين الطرفين.

ومن زاوية العلاقات الدولية، يمكن النظر إلى هذه المزحة كأداة تواصل إنساني، تساعد على كسر الحواجز وتخفيف الصرامة في اللقاءات الرسمية. لكنها في الوقت ذاته تذكرنا بأن المزاح، كأي أداة تواصل، يحتاج إلى وعي بالاختلافات الثقافية، حتى لا يُساء فهمه أو يُفسر على غير المقصود.

شراكة اقتصادية تمتد لخمسين عامًا

لا يمكن النظر إلى واقعة “نكتة البحرين” بمعزل عن السياق الأوسع للعلاقات البحرينية–الماليزية. فهذه العلاقة الدبلوماسية والاقتصادية تعود إلى أكثر من نصف قرن، وشهدت تطورًا متواصلًا في مجالات التجارة والاستثمار والتعاون الثقافي. في عام 2024، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 260 مليون دولار أمريكي، منها 54.8 مليون دولار صادرات ماليزية، و205.6 مليون دولار واردات من البحرين.

وتشمل مجالات التعاون التمويل الإسلامي، حيث تعد البحرين مركزًا ماليًا إقليميًا مهمًا، إضافة إلى التكنولوجيا والطاقة المتجددة، التي تمتلك ماليزيا فيها خبرات واسعة. كما يعمل البلدان على تعزيز الشراكات في قطاعات السياحة والتعليم، مدعومين بروابط إنسانية وثقافية ناتجة عن وجود جاليات متبادلة وحركة سفر متنامية.

زيارة الوفد البحريني إلى ماليزيا في مايو 2025 جاءت في إطار هذه الرؤية الاستراتيجية، حيث التقى كبار المسؤولين الماليزيين، بمن فيهم رئيس الوزراء أنور إبراهيم، وناقشوا توسيع مجالات التعاون بما يتماشى مع التطورات الاقتصادية العالمية، مع التأكيد على استثمار الفرص المشتركة في الأسواق الآسيوية والخليجية.

المزاح كأداة دبلوماسية عامة

تضعنا واقعة “نكتة البحرين” أمام نموذج واقعي لما يسمى الدبلوماسية العامة، وهي توظيف الأدوات الثقافية والإنسانية للتأثير في الرأي العام الخارجي وتعزيز صورة الدولة. ففي هذه الحالة، لعب المزاح دور “القوة الناعمة” التي أظهرت الجانب الإنساني للمسؤول الماليزي، وسمحت بإضفاء جو ودي على اللقاء، دون أن تمس بجديته أو مخرجاته.

الأثر الإيجابي لمثل هذه اللحظات يرتبط بثلاثة عناصر أساسية: ملاءمة السياق السياسي، ودقة الترجمة أو الشرح عند عبور المزاح للغات أخرى، واستعداد الطرف الآخر لاستقبال الرسالة بروح مرنة. وفي حالة البحرين وماليزيا، اجتمعت هذه العناصر في بيئة من الثقة والتعاون المتبادل، ما سمح بتحويل دعابة شعبية إلى لحظة تعكس النضج الدبلوماسي بين بلدين يحتفلان بمرور نصف قرن على علاقاتهما.

وهكذا، تؤكد هذه الحادثة أن السياسة ليست دائمًا لغة الأرقام والاتفاقيات، بل هي أيضًا مساحة للإنسانية، يمكن فيها للجملة الطريفة أن تفتح بابًا للتقارب، وتصبح رمزًا لعلاقة تتجاوز الرسميات إلى بناء جسور بين الشعوب والثقافات.

اقرأ ايضاً

خاتم رونالدو… تأملات “اللحظة” بين الشرق والغرب

شكرا للتعليق