الهند .. حين يصطدم التاريخ بالجغرافيا
“بمجرد انتقالك لولاية أخرى، سيصبح هاتفك على نظام التجوال أو الـroaming وهذا العادي والطبيعي، هنا”. بهذه العبارات، توجه لي بائع بإحدى شركات الاتصال، بمطار كاليكوت، جنوب غربي الهند، مازحا. يدرك البائع أنه من الصعب على زوار الهند استيعاب حقيقة حجم البلاد وكثافتها السكانية الضخمة.
كل شيء، هنا، بعيد عن أي شيء. طريقك للعمل قد يستغرق ساعة ونصف أو أكثر حتى لو كانت المسافة لا تتجاوز بضع كيلومترات. شبكة القطارات مجتمع لوحدها، داخل القطار وفي المحطات وعلى سكك الحديد.
أما الأرقام فلها أبعاد أخرى. في الصحافة، مثلا، توزع إحدى الصحف اليومية في ولاية كيرالا، التي يبلغ تعداد سكانها نحو 33 مليون نسمة، أكثر من 2.5 مليون نسخة يوميا، أي “ما يتجاوز عدد الصحف الموزعة بالدول العربية مجتمعة”، كما يقول، مازحا، أحد الصحفيين المحليين.
تعايش العصور
يقول أحد محدثينا في كاليكوت إنه “من السهل أن تتحدث عن مئات ملايين الهنود كمجرد أرقام وامتداد البلاد التي تعتبر شبه قارة، لكن من الصعب الوقوف على حقيقة تحمل البلاد طاقة أشياء كثيرة”، مضيفا “أن ما يعرف عن بلده أساسا تنوعه العرقي، لكن قلة تعي أن الهند تتعايش بها العصور”.
لمسنا ذلك، فعلا، أو شيئا منه، على الأقل، في كوشين، جنوب غربي البلاد. فعلى بعد كيلومترات قليلة من المدن الذكية الجديدة التي تتزاحم على التكنولوجيا الحديثة والإعلام والابتكار العملي، موانئ تقليدية ورثها صيادو اليوم عن تجار وبحارة عرب وبرتغاليين وهولنديين وبريطانيين.
يقول لنا أحد الصيادين إن “تجهيز القوارب بالمحركات في السنوات الأخيرة اعتبره الصيادون ثورة حقيقية، خاصة أنهم ما زالوا متشبثين بتقنيات الصيد القديمة كالشباك التي تخاط يدويا على الشواطئ والغوص التقليدي”.
تناقضات مدهشة
أحد محدثينا ذهب إلى أبعد من ذلك بالقول “إن ما تسمعه عن الهند يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ”، مفسرا بأن التعايش “بقدر ما يمثل مصدر ثراء وتنوع حضاريين بقدر ما يمثل مصدر توتر، بين الحين والآخر”، مضيفا “أن الأمر ينطبق أيضا على الانفجار الديمغرافي فهو يمثل عبئا على الحكومات المتعاقبة والسلطات المحلية، لكنه يمثل أيضا مخزونا هائلا من الموارد البشرية”.
وتعد الهند مليارا و277 مليون نسمة، حسب أرقام نشرت عام 2013، يتوزعون بدرجات متفاوتة على سبع ديانات ومعتقدات، دون حساب الانقسامات والتوجهات الهامشية التي يعد مريدوها بمئات الآلاف، في بعض الحالات.
صورة أخرى للهند
بعيدا عن التجميل، تعمل نيودلهي على تغيير صورتها في العالم، صورة لطالما ارتبطت بثلاثي الفقر والفوضى والإرهاب. وتقوم حملة العلاقات العامة أساسا على التركيز على التغييرات العميقة التي يشهدها المجتمع. “أي مشروع ضخم يتضمن اليوم بعدا اجتماعيا يضم التعليم والصحة والسكن”، حسب باجو جورج، المدير التنفيذي لمشروع المدينة الذكية في كوشين.
ويهدف ذلك، حسب جورج، للتعجيل بظهور طبقة اجتماعية متوسطة الدخل تكون العمود الفقري للمجتمع، خلال سنوات. وقد شهدت البلاد، فعلا، عودة كثير من كفاءاتها في الخارج، لما تتيحه لها المشاريع الجديدة من امتيازات لا تختلف كثيرا عن تلك التي كانت تتمتع بها بالمهجر. وهو ما ساهم في تنويع الاختصاصات وفتح آفاق أوسع للاستثمار الداخلي والخارجي.
المستقبل .. هندي أيضًا
ومع كل تحرك لولاية أخرى، تشعر بالاختلافات الجوهرية الظاهرية، كالعرق والطائفة والديانة واللغة. تشعر أيضا بالاختلاف في القطاعات الاقتصادية المهيمنة.
فإن كانت ولاية كيرالا وفية لتاريخها كمركز هام للملاحة لتوسطها طريقي الخليج والسويس، فإن ولاية كارناتاكا المجاورة تشق طريقها كوادي سيليكون جديد في العالم.
في بنغالور، عاصمة الولاية، صراع شرس بين كبرى الشركات العالمية المتخصصة في تكنولوجيا الاتصال والتطوير العلمي للظفر بموارد بشرية هندية بدت تقطف ثمار القفزة النوعية التي شهدها التعليم في البلاد.
بل إن بنغالور بدأت تستقطب كفاءات من جميع أنحاء العالم لما تشهده المدينة من ثورة حضرية من أهم معالمها تأسيس مدارس دولية وتطوير البنية التحتية الصحية وتنمية المنشآت والمواقع السياحية.
وتسعى الهند إلى أن تصبح ثالث قوة اقتصادية في العالم بحلول عام 2040، وذاك هدف يرى كثير من محدثينا أنه ليس بعيد المنال. وقد لا يكون رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، مخطئا، حين قال في سبتمبر 2014، إبان وضع قمر اصطناعي في مدار المريخ، إن بلاده “تتجاوز حدود المغامرة والإبداع الإنساني”.
سكاي نيوز عربية