مصطفى جودة يكتب: جبرتى الاغتيالات الإسرائيلية «3-3»
أ.د: مصطفي جودة
رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا
لو أن الجبرتى كان حاضرا بيننا وشاهد ما شاهدنا لقال فى كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»: بعد أن ألقى نيتانياهو خطابه فى الأمم المتحدة وقال فيه كل مفردات الاستعلاء، جلس مع بقية وفده للأمم المتحدة فى نيويورك ومعه وزير خارجيته، دخل عليه فى مقعده أحد أتباعه وهمس فى أذنيه أنه تم اغتيال أحد أعدائه، الشيخ حسن نصر الله عدوه المبين، فابتسم بسمة الفرحين كما أظهرت الصورة للملايين ولما كانت الصورة من أكثر الوسائل قوةً فى توثيق اللحظات ونقل الحالة النفسية، إذ تحمل فى تفاصيلها ما قد تعجز عن نقله الكلمات، مهما بلغت براعتها، فإن هذه الصورة أظهرت رجلا منتشيا ومنتصرا نصرا مبينا من نشوة كأس الاغتيالات.
عقبها أصدر أمرا آخر بقتل نائب الشيخ حسن فزادت فرحته وكثرت تصريحاته، وبعدها قتل خليفة خليفته فبث الرعب فى مفاصل كل الأعداء فى الظاهر والخفاء. غير أن الفرحة لم تتم وفى أقل من شهر جاءت لبيته المحصن، طائرة مسيرة كأنها عفريت من الجن، تخطت جميع دفاعاته مستهدفة منزله، ولما كان الله غالبا على أمره، لم تقتله تلك المسيرة رغم أنها وصلت غرفة نومه، لأنه لم يحن بعد أجله. غير أن الرسالة اليه وصلت والعبرة حدثت، فظهر وهو يعدو ومعه حراسه، خائفا ومهزوزا يجرى فى فزع وارتباك وكأنه يعد أنفاسه. أظهرت هذه الصورة نيتانياهو وهو فى موقف لا يتوقعه الكثيرون لرجل فى مكانته وعلوه الذى فاق حده، خائفاً من طائرة مسيرة تخطت جميع دفاعاته لتستهدف منزله. وعلى الرغم من تأكيد التقارير لاحقاً أن نيتانياهو لم يكن موجودا فى المنزل أثناء الهجوم. عقب ذلك، أصدر نيتانياهو بياناً قال فيه: «إن محاولة اغتيالى وزوجتى اليوم من قبل حزب الله، عميل إيران، كانت خطأً فادحاً، ولن تثنينا عن مواصلة حربنا العادلة ضد أعدائنا من أجل مستقبل إسرائيل.
وفى ختام البيان، وجه تهديداً إلى إيران وحلفائها، مهدداً أن كل من يحاول المساس بمواطنى إسرائيل سيدفع ثمناً باهظاً، كما استعرض عمليات اغتيال قيادات حزب الله. جاء هذا الهجوم ليشكل تحولاً عميقاً فى الصورة التى يرسمها نيتانياهو عن نفسه وعن قدرات إسرائيل الدفاعية، حيث كسرت الطائرة المسيّرة قواعد الأمان المعروفة فى إسرائيل، ودخلت المجال الإسرائيلى دون أن يتمكن أحد من إسقاطها. كانت الطائرة «كملك الموت» الذى جاء ليذكر نيتانياهو بأن الحروب ليست ذات اتجاه واحد، وأن القوة التى يظهرها فى سياساته ليست هى الحاكمة.
خلال هذا الحادث، الذي كان الأول من نوعه فى تاريخ إسرائيل، والذى يُعتبر اختراقاً للمنظومة الدفاعية الشهيرة بقدراتها المتقدمة مثل «القبة الحديدية»، ظهر نيتانياهو فى وضع لم يعهده هو نفسه. ولعل هذا الموقف أعاد تشكيل بعض من صورته أمام شعبه وأمام العالم، إذ ظهر بموقفٍ بدا فيه خائفاً ومضطرباً، على عكس الصورة القوية التى طالما سعى إلى الحفاظ عليها. وبعد الهجوم، تم تصويره وهو يتجول فى حديقة منزله، ليجيب على سؤال أحد الصحفيين حول حالته بعد الحادثة، قائلاً: «لقد قضينا منذ يومين على يحيى السنوار، العقل المدبر الذى كان وراء العمليات الإرهابية وقضينا على نصر الله وخليفته وخليفة خليفته». كانت إجابته محاولة لاستعادة توازنه الداخلى من خلال التباهى بعملية الاغتيالات، لكنه لم يستطع إخفاء حالة الارتباك التى بدت واضحة عليه.
تستحضر صورة نيتانياهو بعد الحادثة العديد من أوجه التشابه مع شخصية «دوريان جراي»، بطل رواية الكاتب الإيرلندى أوسكار وايلد التى تحكى قصة شاب وسيم باع روحه مقابل الحفاظ على شبابه وجماله، حيث تتحمل صورته آثار كل أفعاله السيئة وفساده الأخلاقى، فيما يبقى مظهره الخارجى مشرقاً. ومع مرور الوقت، يتحول دوريان إلى شخصية متناقضة، حيث يسعى للحفاظ على بنيته الشابة، بينما تتدهور صورته التى تمثل حقيقتَه الأخلاقية. بهذا المعنى، نجد تشابهاً واضحاً بين دوريان جراى ونيتانياهو، إذ يسعى الأخير أيضاً إلى الحفاظ على صورته كقائد قوى ومتماسك أمام الرأى العام، بينما تلاحقه قضايا الفشل والحرص على مصالحه أكثر من مصالح وطنه واتهامات تتعلق بسياساته الأمنية، وتعكس الكثير من التشوهات فى صورته التى يسعى جاهداً لحمايتها. بينما يحاول الحفاظ على مظهر القائد الحازم، يجد نفسه محاصراً بتهم فساد وسوء استغلال للسلطة. يُذكر أن قضايا الفساد التى تلاحق نيتانياهو تتزايد يوماً بعد يوم، وتزداد معها الشكوك حول مدى نزاهته فى إدارة شئون الدولة، بل وتؤثر سلباً على صورته العامة. وفى حادثة الطائرة المسيّرة، أظهرت هذه الصور جانباً هشاً من شخصيته، حيث بدا قلقاً ومضطرباً كما لو كان يعيش خوفاً مستمراً من عواقب سياساته.
يمكننا أن نستخلص من هذا التشابه بين نيتانياهو ودوريان جراى أن هناك تناقضاً متأصلاً فى شخصية كل منهما. فكما كان دوريان جراى يسعى للحفاظ على شبابه ووسامته، بينما تنعكس أفعاله الشريرة على صورته، يسعى نيتانياهو بالمثل للحفاظ على صورته كقائد قوى، بينما تتراكم الاتهامات والانتقادات التى تشوه صورته الحقيقية.
المسيرة وما تلاها، سجلت عهدا جديدا لعمليات الاغتيال التى كانت تفخر بها إسرائيل وتبث من خلالها الرعب فى أوصال أعدائها، وكأنه لا غالب لها. إنه تاريخ جديد ليس على إسرائيل وحدها ولكن على الدنيا كلها: الأعمار بيد الله وحده ولا مغير لكلماته. الرسالة لنيتانياهو ومن سيخلفه: «ولت أيام اغتيالاتك ورعبك والروح لا يقبضها ألا ربك». وأخيرا، نشرت صحيفة جيروزاليم بوست يوم 30 أكتوبر الماضى أن نيتانياهو سيؤجل زفاف ابنه خوفا من المسيرات.
gate.ahram
اقرأ للكاتب
مصطفى جودة يكتب: جبرتي الاغتيالات الإسرائيلية «2-3»