عبد المنعم سعيد يكتب : أين تذهب الأموال الكثيرة؟
قال صاحبى متواضع الحال: لا أدرى إلى أين تذهب كل هذه الأموال التى تأتى إلى مصر، وراح يعدد ما أتى إلى المحروسة من 25 مليار دولار جراء زيارة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، إلى القاهرة، وبعدها 1،8 مليار دولار نتيجة زيارة الرئيس الفرنسى هولاند إلى العاصمة، ومن بعدها 4 مليارات دولار وردت من زيارة الشيخ محمد بن زايد، ولى عهد إمارة أبوظبى، إلى البلاد، هكذا تجاوز العدّ ثلاثين مليار دولار، أو 300 مليار جنيه مصرى، وفقاً لأقل التقديرات الحقيقية لسعر الجنيه .
ولكن محدثى قال بأريحية كبيرة إنه لن يذكر فى الوقت الراهن ما يتراوح بين 3 و8 مليارات دولار عزمت السيدة الفاضلة وزيرة التعاون الدولى جلبها من البنك والصندوق الدوليين، وذلك لأنه لم يتم توقيع اتفاقات بعد، ولكنه لم يُغفل بعضا من الغمز واللمز حينما أشار- كما لو كان نوعا من تحصيل الحاصل- إلى مليارات أخرى كثيرة تجاوزت 70 ملياراً ذُكرت إبان ما عُرف بـ«المؤتمر الاقتصادى» فى العام الماضى، وفى النهاية كان العجب من أنه مع كثرة الأموال فإن قرشا لم يدخل إلى جيب «المواطن العادى» .
الكلام فى فحواه بسيط وشائع بشدة بين طائفة واسعة من المواطنين، خاصة مَن يصفهم الأستاذ حمدين صباحى بـ«الغلابة الطيبين»، وبالطبع فإن الحساب بهذه الطريقة يجعل الأرقام الموضحة أعلى من ذلك، عندما تُضاف إليها نتائج الاتفاقات التى عقدها الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال زياراته للدول الغربية والشرقية، والتى يجرى تحويلها فورا إلى مليارات من الدولارات، والحقيقة أن هذا الشائع من القول ليس جديدا بالمرة، فعندما كانت مصر تنمو بنسبة 7% دار فى الدوائر الشعبية، وحتى فى حلقات الحكم، نفس التساؤل عن المستفيد من كل ذلك، وعما إذا كان المواطن «العادى» قد استفاد شيئا «ملموسا»؟
جرى الحكم هكذا عاما وغير محدد، ومادام هذا الإنسان العادى لم يستفد شيئا، فإن كل ما يُذكر إما أنه كذب صريح، أو أن جماعة ما تستلب كل هذه الأموال، ولا يبقى بعدها للمواطنين شىء يستحق الذكر، وقتها طرحت سؤالا عما إذا كان العاملون- فى قطاع التشييد والإعمار، وهؤلاء العمال فى قطاع الصناعة، والآخرون فى الخدمات الاستهلاكية، وثالثهم من الفلاحين المصريين، ورابعهم بالتأكيد مَن يعملون فى قطاع السياحة والاستثمارات الأجنبية، وخامسهم مَن هم فى مجالات الاستيراد والتصدير، وسادسهم فى الخدمات المهنية، وهكذا قطاعات كانت تنمو بسرعة كبيرة، وبمعدلات عالية- قد تأثروا إيجابيا بهذا النمو أم لا؟
كان واضحا أن بعض الكلام لا يعكس واقع «المواطن العادى» فى مصر، لأن المصريين العاديين ليسوا كلهم سواء، والأغلب أن غير المستفيدين يمثلون قطاعا واسعا من موظفى الحكومة والقطاع العام والهيئات الاقتصادية العامة من أصحاب الدخول الثابتة، الذين لا يقعون فى إطار القطاعات النامية فعلا فى البلاد .
الآن ربما يكون الأمر مختلفا، أولاً : لأن البلاد لا تنمو بنفس المعدلات فى جميع أجزائها، كما أن مصر تضيف- ثانياً– 2 مليون نسمة وأكثر لشعبها كل عام، وثالثاً: أن الأموال التى تأتى للدولة جراء الاتفاقيات كثير منها يدخل البنك المركزى، فى محاولة لتحقيق الاستقرار المالى، أى أنها محتجزة ومحتبسة، ورابعا: أن قدرا غير قليل منها يأتى فى شكل قروض ومنح عينية قوامها نفط وغاز وصلت إلى المواطن العادى وغير العادى بحل مشكلة انقطاع الكهرباء وغياب البوتاجاز .
وخامسا– وهو غالبا ما لا يُلاحظ- أن الأموال التى جرى حصرها هى فى أصلها حُسبت من «مذكرات تفاهم» أو «خطابات للتعاون» جرى الاجتهاد فى تحويلها إلى أرقام مالية، بينما الواقع هو إما أنه لا أحد يهتم بها بعد حفل التوقيع، أو أن لها طريقاً طويلاً لكى تتم ترجمتها إلى واقع يصل عائده إلى «المواطن العادى» .
إشكالية هذا الطرح من جانب صاحبى أنه لا ترد فيه إشارة من أى نوع إلى دور «المواطن العادى» فى تكوين هذه الثروات، ولا استعداده للعمل على تنميتها، بحيث يتحقق منها فائض يسدد الديون ويخرج مصريين من الفقر إلى الستر من خلال استثمارات يعملون فيها .
الاتفاقيات وما تحتويه من مليارات تتحول إلى أنواع من «الريع» على وقف مصر السياسى، ينبغى أن يُوزع على المصريين، بحيث يشعر كل منهم بأن فائدة مباشرة عادت عليه، المدهش أن أياً من هذه النظريات لم تلفت نظر المسؤولين، الذين باتت لديهم قدرة فائقة على تحويل كل مقابلة مع زائر أجنبى إلى مليارات مضافة للدخل القومى، لإشاعة نوع من التفاؤل، الذى يضيع فورا بمجرد التساؤل عن عائد الإنسان العادى .
الأمر كله يحتاج استراتيجية مختلفة تبدأ بوضع اتفاقياتنا فى أحجامها الحقيقية مالاً وزمناً، وتنتهى بأن نعرف جميعا القطاعات المستفيدة عملا وعائدا مما يرد لنا من اتفاقيات، مرورا بقياس ما جاء حقا بالضرورات التى تفرضها علينا البنية الأساسية والزيادة السكانية وثمن ثورات أُهدرت فيها ثروات كبرى نتيجة التوقف عن العمل والإنتاج .
ببساطة: نحتاج إلى قدر كبير من الصراحة والشجاعة والوضوح حول نتائج اتفاقياتنا الإقليمية والدولية، والأكثر أهمية التساؤل عن أمرين: الأول عما إذا كانت هذه الاتفاقيات قد فتحت الأبواب لتشجيع الاستثمار المحلى لكى نصل فى النهاية إلى تنمية «مستدامة»، والثانى عما إذا كان لدينا الوعى الكافى لإدراك أن ما نصل إليه من اتفاقيات، وفى النهاية ما يصل إلينا من أموال، هو فى الأول والآخر له آجال معلومة، وليس علينا أن نتصور أنه قابل للتكرار إلى آخر الزمان، وفى كلا الأمرين فإن جوهر التنمية فى مصر لابد أن يكون مصدره الأساسى الداخل المصرى مادمنا نأخذ التنمية بالجدية التى تستحقها، ورخاء المواطن المصرى «العادى» بالأمل الذى هو حق له .
جوهر القضية كلها ليس الاتفاقيات التى نعقدها، ولا الأموال التى ترد منها، وإنما كيف ننفقها، وما البيئة الاقتصادية التى ستتفاعل معها، لأنها هى البيئة ذاتها التى سيعمل فيها رأس المال المصرى، لقد تحدثنا كثيرا عن مناخ الاستثمار، وبيئة النمو الاقتصادى، ولكننا لم نتحدث عن استراتيجية التنمية، ويوضح المسألة إلى درجة كبيرة ما نُشر مؤخرا عن حالة طريق قنا- سفاجا الذى كان إنشاؤه نبوءة بربط الصعيد بالبحر الأحمر، وكيف إلى جانبيه سوف تزدهر الصناعات والمشروعات التعدينية، وفوق ذلك سوف تُقام المدن الكبيرة، والقرى الصغيرة، وبينهما يتجول المواطنون فى بيئة فسيحة بعيدا عن الوادى المزدحم، ولكن الحقيقة لم تكن كذلك كما نُشر فى تحقيق «المصرى اليوم» منذ فترة قصيرة، فالطريق بات سبيلا للمجرمين والمهربين، وشاهدا على حوادث قاتلة، وعلى الجانبين ظلت الصحراء على حالها ليس فيها إلا قبض ريح وخواء، فلم يأت بشر، ولا جاء مستثمر، ولا شىء بعد ذلك لسنوات عديدة، ما جرى لمليارات من الجنيهات لم يكن أكثر من إهدار مخيف لموارد شحيحة لم يكن كلها مالا، وإنما عرقا وفكرا وأحلاما، فهل يكون ذلك هو مصير الطرق التى ننشئها، والمزارع التى نقيمها، والمدن التى نخطط لها، أم أن هناك طريقة أخرى للتعامل مع ما تنتجه السياسة المصرية فى العلاقات الخارجية للبلاد؟
المسألة هكذا ليست عدّ ما جاء إلى مصر من أموال، ولا كيف نقنع المواطن «العادى» بأن مصير هذه الأموال فى النهاية سوف يصب فى مستقبل أفضل له ولأولاده، لأن ذلك لن يحدث بمشاهدة آلاف الكيلومترات من الأسفلت، ومئات ألوف الأطنان من الخرسانة المسلحة، وعشرات الأسماء لمشروعات كبرى، وإنما كيف لكل ذلك أن يقدم حياة جديدة، وسبل عيش حديثة للمواطنين على كافة أشكالهم وأدوارهم، التفاعل بين جوانب الإنشاءات والبشر المصريين هو قضية التنمية الكبرى فى الدولة، وعندها سوف يتوقف الجميع عن التساؤل حول مصير أموال الاتفاقيات، لأن الواقع ساعتها سوف يضع إجابات عن أسئلة صعبة؟!
المصرى اليوم