صلاةُ التراويح مشروعيتها وعددها

صلاةُ التراويح في رمضان سنةٌ مؤكدة للرجال والنساء، وقد سنَّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله وفعله، فعَنْ أبِـي هُرَيْـرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْـهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَـهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِـهِ» متفق عليه.

وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِـينَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم صَلَّـى ذَاتَ لَـيْلَةٍ فِـي المَسْجِدِ، فَصَلَّـى بِصَلاَتِـهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّـى مِنَ القَابِلَةِ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَـمَعُوا مِنَ اللَّـيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَـمْ يَـخْرُجْ إِلَـيْـهِـمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فَلَـمَّا أَصْبَحَ قَالَ: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُـمْ، وَلَـمْ يَـمْنَعْنِـي مِنَ الخُرُوجِ إِلَـيْكُمْ إِلاَّ أَنِّـي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَـيْكُمْ» وَذَلِكَ فِـي رَمَضَانَ. متفق عليه.

وَعَنها أيضًا رَضِيَ اللهُ عَنْـهَا قالتْ: كَانَ النَّبِـيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأحْيَا لَـيْلَـهُ، وَأيْقَظَ أهْلَـهُ. متفق عليه.

والتراويح في اللغة: جمع الترويحة؛ يقول العلامة ابن منظور في لسان العرب (2/462، ط. دار صادر- بيروت): [التَّرويحةُ في شهر رمضان: سميِّت بذلك لاستراحة القوم بعد كل أَربع ركعات؛ وفي الحديث: صلاة التراويح؛ لأَنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين. والتراويح: جمع تَروِيحة، وهي المرة الواحدة من الراحة، تَفعِيلة منها، مثل تسليمة من السَّلام] اهـ.

وبمجرد التعريف اللغوي يتبين أن صلاة التراويح أكثر مِن ثمان ركعات، لأن الترويحة الواحدة بعد أربع ركعات، فلو كانت ترويحتين للزم أن يكون عدد الركعات اثنتي عشرة ركعة، والحق أن الأمة أجمعت على أن صلاة التراويح عشرون ركعة مِن غير الوتر، وثلاث وعشرون ركعة بالوتر، وهو معتمَد المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية في المشهور، والشافعية، والحنابلة. وهناك قول نُقِل عن المالكية خلاف المشهور أنها ست وثلاثون ركعة، ولم تعرف الأمةُ القولَ بأن صلاة التراويح ثمان ركعات إلا في هذا الزمن، وسبب الوقوع في تلك المخالفة: الفهم الخطأ للسنة النبوية، وعدم القدرة على الجمع بين الأحاديث، وعدم الالتفات إلى الإجماع القولي والفعلي من لدن الصحابة إلى يومنا هذا.

فاستشهدوا بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ حيث قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تَسَل عن حُسنِهنّ وطُولِهنّ، ثم يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ فقال: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ، وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي» رواه البخاري ومسلم.

وهذا الحديث يحكي عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نافلة قيام الليل عمومًا، ولم يتعرض إلى صلاة التراويح؛ إذ هي قيام ليل مخصوص بشهر رمضان، وهي سنة نبويةٌ في أصلها عُمَرِيَّةٌ في كيفيتها، بمعنى أن الأمة صارت على ما سَنَّه سيدُنا عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه مِن تجميع الناس على القيام في رمضان في جميع الليالي، وعلى عدد الركعات التي جمع الناس عليها على أُبَيّ بنِ كَعب رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ عَضُّوا عليها بالنَّواجِذ» رواه الترمذي وأحمد وابن حِبان.

وإذا لم يكن مستند الأمة فعل سيدِنا عمرَ رضي الله عنه فلا معنى حينئذ لأداء التراويح في جماعة في المسجد على إمام واحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجمع الناسَ على إمام طوال الشهر، وإنما هذا مِن فعل سيدنا عمر، فأَخَذَ هؤلاء مِن سُنّة سيدنا عمر رضي الله عنه جَمْعَ الناسِ على إمام طوال الشهر، وتركوا مِن سنته عدد الركعات زاعمين أنهم يطبقون بذلك سنة صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلا هم أصابوا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا هم وافقوا سنة عمر رضي الله عنه كما هي، وإذا زعموا أنهم يطبقون سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجب عليهم أن يصلوا التراويح في البيت، وأن يتركوا الناسَ يطبقون دين الله كما ورثوه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

والأدلة على أن ذلك فعل عمر رضي الله عنه: ما رواه الإمام مالك في “الموطأ”، والبخاري في “صحيحه”، والبيهقي في “السنن الكبرى”، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ؛ أنه قال: خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أَوزاعٌ متفرقون: يصلي الرجلُ لنفسه، ويصلي الرجلُ فيصلي بصلاته الرَّهطُ، فقال عمر: “إني أرى لو جَمَعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أَمثَلَ”، ثم عزم فجمعهم على أُبَيِّ بنِ كَعبٍ، ثم خرجتُ معه ليلةً أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: “نِعمَ البدعةُ هذه، والتي ينامون عنها أفضل مِن التي يقومون”، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله.

وتلك الصلاة التي جمع عمر رضي الله عنه الناس عليها هي التراويح، وهي عشرون ركعة، دل على ذلك عدة أحاديث:

منها: ما رواه الإمام مالك في “الموطأ”، والبيهقي في “السنن الكبرى”، عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة. قال: وكانوا يقرءون بالمِئين، وكانوا يتوكؤون على عِصِيِّهم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه من شدة القيام.

وروى الإمام مالك في “الموطأ”، والبيهقي في “السنن الكبرى” عن يزيد بن رُومان، قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان بثلاث وعشرين ركعة.

فذهب الحنفية إلى ذلك، قال الإمام السرخسي في “المبسوط” (2/144، ط. دار المعرفة) عن التراويح: [إنها عشرون ركعة سوى الوتر عندنا، وقال مالك رحمه الله تعالى: السنة فيها ستة وثلاثون] اهـ.

وذكر الإمام الكاساني في “بدائع الصنائع” (1/288، ط. دار الكتب العلمية) ما يؤكد ذلك؛ حيث قال: [وأما قدرها فعشرون ركعة في عشر تسليمات، في خمس ترويحات، كل تسليمتين ترويحة، وهذا قول عامة العلماء] اهـ.

ويعضد ذلك ما نقله العلامة ابن عابدين في حاشيته (2/46، ط. دار الفكر)؛ حيث قال: [(قوله وهي عشرون ركعة) هو قول الجمهور، وعليه عمل الناس شرقًا وغربًا] اهـ.

وأما المالكية فالمشهور من مذهبهم ما يوافق الجمهور، قال العلامة الدردير في “الشرح الصغير” بحاشية العلامة الصاوي (1/ 404-405، ط. دار المعارف): [(والتراويح): برمضان (وهي عشرون ركعة) بعد صلاة العشاء، يسلم من كل ركعتين غير الشفع والوتر. (و) ندب (الختم فيها): أي التراويح، بأن يقرأ كل ليلة جزءًا يفرقه على العشرين ركعة].

وذكر العلامة النفراوي في “الفواكه الدواني” (1/318-319، ط. دار الفكر) قوة مذهب الجمهور، وموافقة أتباع مالك له، والقول الآخر لمالك فقال: [(وكان السلف الصالح) وهم الصحابة (يقومون فيه) في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبأمره كما تقدم (في المساجد بعشرين ركعة) وهو اختيار أبي حنيفة والشافعي وأحمد، والعمل عليه الآن في سائر الأمصار. (ثم) بعد صلاة العشرين (يوترون بثلاث) من باب تغليب الأشرف، لا أن الثلاث وتر؛ لأن الوتر ركعة واحدة كما مر، ويدل على ذلك قوله: (ويفصلون بين الشفع والوتر بسلام) استحبابًا، ويكره الوصل إلا لاقتداء بواصل، وقال أبو حنيفة: لا يفصل بينهما، وخَيَّر الشافعيُ بين الفصل والوصل، واستمر عمل الناس على الثلاثة والعشرين شرقًا وغربًا. (ثم) بعد وقعة الحَرّة بالمدينة (صلوا) أي السلفُ غيرَ الذين تقدموا؛ لأن المراد بهم هنا مَن كان في زمن عمر بن عبد العزيز (بعد ذلك) العددِ الذي كان في زمن عمر بن الخطاب (ستا وثلاثين ركعة غير الشفع والوتر).. إلى أن قال: وهذا اختاره مالك في المدونة واستحسنه، وعليه عمل أهل المدينة، ورجح بعض أتباعه الأول الذي جمع عمر بن الخطاب الناس عليها لاستمرار العمل في جميع الأمصار عليه] اهـ.

وأما الشافعية فيصرحون بأن التراويح عشرون ركعة، ذكر الإمام النووي رضي الله عنه ذلك في “المجموع” (3/527، ط. دار الفكر) فقال: [مذهبنا أنها عشرون ركعة بعشر تسليمات غير الوتر، وذلك خمس ترويحات، والترويحة أربع ركعات بتسليمتين، هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وداود، وغيرهم، ونقله القاضي عِياض عن جمهور العلماء. وحكي أن الأسود بن يزيد كان يقوم بأربعين ركعة ويوتر بسبع. وقال مالك: التراويح تسع ترويحات، وهي ست وثلاثون ركعة غير الوتر. واحتج بأن أهل المدينة يفعلونها هكذا] اهـ.

ويجمع الشافعية بين مذهب المالكية ومذهب الجمهور؛ حيث عللوا زيادة الركعات عند الإمام مالك بأن ذلك لتعويض الطواف في المسجد الحرام، قال العلامة ابن حجر الهيتمي في “تحفة المحتاج” (2/240-241، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [وهي عندنا لغير أهل المدينة عشرون ركعة، كما أطبقوا عليها في زمن عمر رضي الله عنه، لما اقتضى نظره السديد جمع الناس على إمام واحد، فوافقوه، وكانوا يوترون عقبها بثلاث، وسر العشرين أن الرواتب المؤكدة غير رمضان عشر فضوعفت فيه؛ لأنه وقت جد وتشمير، ولهم فقط لشرفهم بجواره صلى الله عليه وسلم ست وثلاثون؛ جبرًا لهم بزيادة ستة عشر في مقابلة طواف أهل مكة أربعة أسباع، بين كل ترويحة من العشرين سبع] اهـ.

ويؤكد ذلك ما ذكره العلامة الرملي في “نهاية المحتاج” (2/127، ط. دار الفكر)؛ حيث قال: [وهي عشرون ركعة بعشر تسليمات في كل ليلة من رمضان؛ لما روي أنهم كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة. وفي رواية لمالك في الموطأ بثلاث وعشرين. وجمع البيهقي بينهما بأنهم كانوا يوترون بثلاث، وقد جمع الناس على قيام شهر رمضان: الرجال على أبي بن كعب، والنساء على سليمان بن أبي حَثمة، وقد انقطع الناس عن فعلها جماعة في المسجد إلى ذلك، وسميت كل أربع منها ترويحة لأنهم كانوا يتروحون عقبها: أي يستريحون] اهـ.

أما الحنابلة فقد صرحوا بأن المختار عند الإمام أحمد عشرون ركعة، فقال العلامة ابن قدامة المقدسي في “المغني” (1/456، ط. مكتبة القاهرة): [والمختار عند أبي عبد الله رحمه الله فيها عشرون ركعة. وبهذا قال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي. وقال مالك: ستة وثلاثون. وزعم أنه الأمر القديم، وتعلق بفعل أهل المدينة، فإن صالحًا مَولى التَّوأَمةِ قال: أدركت الناس يقومون بإحدى وأربعين ركعة، يوترون منها بخمس] اهـ.

وينقل كذلك العلامة البهوتي في “كشاف القناع” (1/425، ط. دار الكتب العلمية) معتمد المذهب الحنبلي، فيقول عن التراويح: [سميت بذلك لأنهم كانوا يجلسون بين كل أربع يستريحون، وقيل مشتقة من المراوحة وهي التكرار في الفعل، وهي (عشرون ركعة في رمضان) لما روى مالك عن يزيد بن رُومان قال: كان الناس يقومون في زمن عمر في رمضان بثلاث وعشرين] اهـ.

وابن تيمية الحنبلي نفسه يؤكد ما ذهب إليه الأئمة، ويقر بأنه السنة عند كثير من العلماء، فيقول في “الفتاوى الكبرى” (2/250، ط. دار الكتب العلمية): [شبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان، فإنه قد ثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان، ويوتر بثلاث. فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة؛ لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر. واستحب آخرون: تسعًا وثلاثين ركعة؛ بني على أنه عمل أهل المدينة القديم. وقال طائفة: قد ثبت في الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة. واضطرب قوم في هذا الأصل؛ لِمَا ظنوه من معارضة الحديث الصحيح؛ لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين، وعمل المسلمين. والصواب أن ذلك جميعه حسن] اهـ.

ومما سبق نرى أن ما عليه الأئمة والعلماء والمذاهب الفقهية على مر العصور سلفًا وخلفًا، شرقًا وغربًا أن صلاة التراويح عشرون ركعة، وهي سنة مؤكدة وليست واجبة.

فمَن تركها حُرِم أجرًا عظيمًا، ومَن زاد عليها فلا حرج عليه، ومَن نقص عنها فلا حرج عليه، إلا أن ذلك يُعَدُّ قيامَ ليلٍ، وليس سنةَ التراويح.

والله سبحانه وتعالى  أعلم

دار الافتاء المصرية

شكرا للتعليق على الموضوع