الصيام فى الديانات السماوية
إنّ الصيام في الإسلام يُعْرف برؤية الهلال ، وهو كفّ النفس عن اللّذات الثلاثة: (الطعام، والشراب، والجماع) في أوقات الإمساك، والترخيص بها في الإفطار.
وقد راعى الإسلام ذوي الأعذار فأباح لهم الفطر. وجعل الإسلام القيام في لياليه والاعتكاف بالمساجد في أواخره حملاً للنفس على التزكية وترغيبًا لها في الخير. ثُمّ يعقبه ما يدلُّ على البهجة، ونباهة حال المِلًّة، وهو عيد الفطر، وليس للأديان الأخرى مثل هذه المزيّة (انظر: الإعلام بمناقب الإسلام. ص 144).
وقد عبَّرالغزالي عن فلسفة الصيام في الإسلام قائلاً: “اعلم أن الصّوْم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. أما صَوْم العموم: فهو كفّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق تفصيله. وأما صوم الخصوص: فهو كفّ السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهمم الدنِيَّة والأفكار الدنيوية، وكفّه عما سوى الله عزّ وجل بالكلية” (أبو حامد الغزالي: أسرار الصوم، [ص:40]، تحقيق ماهر المنجد، ط 1، 1417هـ / 1996م، دار الفكر – دمشق).
“وتعدّ فريضة الصيام من أقدم التشريعات اليهودية بعد شعيرة تقديم القرابين في الهيكل التي اختفت وحلت محلها الصلاة اليهودية. ويتسع مفهوم الصيام كثيرًا لدى اليهود؛ وسبب ذلك راجع إلى اجتهاداتهم في إيجاد أنواع منه، جُلّها مرتبط بالحدث التاريخي، وما أفرزته طبيعتهم العدائية للأمم التي عايشوها، أو عاصروها، والتي غلب عليها طابع الحزن؛ نتيجة تعرضهم للمحن” (أ. ناصر الدين الكاملي: الصوم في القديم والحديث، [ص:21]، د. ت. مطبعة الكونكورد).
والصوم لدى اليهود نوعان:
1- فردي (شخص) ويُسَمى صوم الأسر، ويقع في حالات الحزن الفردي، أو عند التكفير عن خطيئة.
2- جماعي، وهو غير ثابت، وغالبًا ما يفعلونه عند حدوث حزن عام يقلقهم، كالصوم عند رداءة المحصول، أو غارات الجراد، أو الهزائم في الحروب (أ. عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات في الأديان السماويّة، [ص:102]، وقارن: د. حسن ظاظا: الفكر الديني الإسرائيلي أطواره ومذاهبه، [ص:68]، ط 1971م، معهد البحوث والدراسات العربية – الإسكندرية).
“وقد ظهر عند اليهود ما يُسمّى بصيام الصمت، وهو استغراق الصامت في صمته، ضاربًا على نفسه ثوب التوبة من الخطايا والندم على ما اقترفه اللسان من بذيء الكلام وفاحشه. وهذا النوع من الصيام معروف في الديانات القديمة، وليس وقت محدد” (أ. عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات في الأديان السماويّة، [ص:110]).
وقد أشار القرآن إلى صيام الصمت في قوله تعالى على لسان مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم:26]. وقد وردت الإشارة إلى هذا الصيام في نصوص التوراة، من ذلك: “شقَّ ثيابه وجعل مسحًا على جسده وصام واضطجع بالمسح ومشى بسكوت” (الملوك الأول 21: 27). وأيضًا: “ارتعِدوا ولا تُخطِئوا، تكلموا في قلوبكم على مضاجعكم واسكتوا” (مزمور 4: 4).
وفي الأسر البابلي صام اليهود أربعة أيام هي:
1- صوم الشهر الرابع من تموز: في ذكرى تدمير أورشليم والهيكل 587 ق. م، لكنهم تركوا هذا الصوم بعد إعادة بناء الهيكل.
2- صوم الشهر الخامس من آب.
3- صوم الشهر السابع من شهر تشرى.
4- صوم الشهر الثامن من شهر تبيتو.
وكان بعض الربانيين يعدُّون صوم هذه الأيام واجبًا عند الأزمات، وهناك أيام أخرى للصوم وضعوها لإحياء ذكرى بعض الأيام، خاصّة أيام النكبات، ولم يتقبلها عامة الناس (قاموس الكتاب المقدس (أنا الألف والياء) لمجموعة من علماء اللاهوت، [ص:17-20]، ط 1989م، دار المشرق – بيروت).
والصيام الوارد عند اليهود في التوراة: هو الصيام الأربعيني، ورد في التوراة: “وكان -أي: موسى عليه السلام- هناك عند الرّبّ أربعين نهارًا وأربعين ليلة لم يأكل خبزًا، ولم يشرب ماءً” (الخروج 34:28).
والمُلاحظ من النص التوراتي، ما يلي:
أ- الصّوْم الموسوي كان للتقرب إلى الله واستقبال وحيه.
ب- لم يُصرِّح النّصُّ بفرض هذا الصيام الأربعيني على العامة، ورغم ذلك فقد استند النصارى إلى هذا النَّصّ لفرض الصيام بوجه عام.
ج- امتناع موسى عليه السلام عن الطعام والشراب جميعًا، وهذا لم يلتزم به اليهود والنصارى؛ بل لم ترد إليه إشارة في صيامهم على الإطلاق.
د- هذه الأربعون يومًا لم يرد في النصوص تحديدها بين أيام السنة (د. أحمد غنيم: فلسفة الصيام في الديانة اليهودية، والنصرانية، وفي الإسلام. [ص:12]، طـ 1، 1405هـ / 1985م، مطبعة حسَّان – القاهرة).
غير أنّ دائرة المعارف اليهودية ترى أن الصيام الوحيد الذي لم يرد غيره في التشريع الموسوي هو صيام يوم الغفران (يوم كبور): “ويكون لكم فريضة دهرية أنكم في الشهر السابع في عاشر الشهر تذلّلون نفوسكم، وكل عمل لا تعملون الوطني، والغريب النازل في وسطكم” (اللاويين 16:29).
“ويبدأ اليهود صيامه قبل غروب الشمس بنحو ربع ساعة إلى ما بعد غروب الشمس في اليوم التالي بنحو ربع ساعة، فهو لا يزيد بحال عن خمس وعشرين ساعة متتالية، وهو عاشوراء اليهود، وما زال فيهم حتى اليوم” (موسوعة الكتاب المقدس لمجموعة من الباحثين، [ص:33]، ط 1993م. دار منهل الحياة – لبنان).
وقيل: “إن مدة يوم الغفران هوسبع وعشرون ساعة من قبل مغيب الشمس لليوم الأول إلى ما بعد غياب الشمس لليوم الثاني” (أ. عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات في الأديان السماويّة، [ص:103]).
“فكأنَّها اعتبرت ما ورد عن صيام موسى عليه السلام أربعين يومًا كان خِصيصة له وحده، رغم أن الكنيسة النصرانية قد ألزمت أتباعها بالصيام الأربعيني” (د. أحمد غنيم : فلسفة الصيام في الديانة اليهودية، والنصرانية، وفي الإسلام. [ص:14]).
“والشيء المثير للعجب أنهم -أي اليهود- اختلفوا في توقيت الصيام بعد موسى عليه السلام. وقد اهتم شُرّاح العهد الجديد بالصيام رغم اعترافهم بعدم وجوب فرضه فيه، ويعتبرونه إلى جنب الصلاة والصلاة والصدقة أحد الأركان الأساسية لدينهم” (أ. عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات في الأديان السماويّة، [ص:181]).
وما جاءت به النصرانية عبر مراحل تأثرها وتطورها يصعب تسميته بشرع سماوي، فالكثير الغالب فيه تشريع كنسي وضعه القساوسة والرهبان وصادقت عليه مجامعهم الكنسية التي عدت قراراتها ذات قدسية ملزمة على كل نصراني. وليس في العهد الجديد وصية تطلب الصوم، إنما يُفْهم أنه أمر اختياري يلجأ إليه النصراني عند الحاجة، ويقترن بالصلاة والتذلل، وليس في الكتاب المقدس -عند أهله- ما يحظر التنادي إلى يوم صوم وصلاة في كنيسة من الكنائس ولأجل حاجة ما” (انظر: [اللاويين 16: 29]، [صموئيل الثاني 12: 16، 20]، [إشعياء 58: 3 – 5]، [يونان 3: 5]).
والمتصفح لسيرة المسيح عليه السلام من خلال الأناجيل يبدو له أنه أراد للصائمين عدم إظهار صومهم للآخرين؛ حتى لا يصبحوا مرائين به، كما كان يفعل اليهود آنذاك، وبما أن الصوم عبادة نسكية وتوجه إلى الله تعالى نجد أن المسيح عليه السلام يحثُّ أتباعه على الصوم، ويمدحه (انظر: [متى 6: 16 – 18]، وأيضًا: [معجم اللاهوت الكتابي [ص:488]).
ويرى فريق من النصارى “أنّ المسيح عليه السلام لم يفرض عليهم صيامًا إلا الصوم الكبير (صوم يوم الكفارة)” السابق لعيد الفصح (أ. عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات في الأديان السماويّة، [ص:182]).
“ومع ظهور البواكير الأولى للتشريع الكنسي تحددت بعض معالم الصيام، وما يجب تناوله من طعام، وما لا يجب عندما عرف الصيام بأنه “شريعة كنسية تكيفها الكنيسة حسب مقتضيات الزمان والمكان” (د. علي الخطيب: الصيام من البداية حتى الإسلام، [ص:151]، ط 1، 1980م. المكتبة العصرية – بيروت).
ويمكن تقسيم الصيام حسب الطوائف النصرانية إلى ثلاثة أقسام هي:
1- الصيام في الكنيسة الكاثوليكية:
“ويبدأ عندهم في منتصف الليل إلى نصف النهار، ويلتزم به مَنْ بلغ السابعة من العمر، وينتهي بالستين للرجال، والخمسين للنساء. والصيام اللازم في الكاثوليكية: هو الصيام الكبير، ويمتنعون عن أكل اللحم والألبان والبياض (البيض، والجبن، والحليب، والزبد) يومي الأربعاء والجمعة، لكنهم يلتزمون -اليوم- صيام يوم واحد” (د. علي الخطيب: الصيام من البداية حتى الإسلام، [ص:151]، ط 1، 1980م، المكتبة العصرية – بيروت).
“وقد أعطت الكنيسة الكاثوليكية السلطة لرجال كنيستها بإعفاء من رغب من أتباعها من الواجبات الدينية ومنها الصيام، مما مكنها من فرض أصوام متفاوتة بجانب فرائض أخرى على المتهمين بجرائم متفاوتة، يمارسونها عدة سنوات لا شهورًا وأيامًّا، وهكذا بقي في قانون الكنيسة العالمي (الكاثوليكي) الصيام في جميع أيام الأحد ويوم القديس (مرقس) وأسبوع الفصح وأيام الطلبات (البركات) وجميع أيام السبت والجمعة” (د. علي الخطيب: الصيام من البداية حتى الإسلام، [ص:152]، وأيضًا: أغناطيوس فرزلي: التعليم المسيحي الأرثوذكسي، [ص:84]، د. ت. مطبعة أناتوليى – الإسكندرية).
2- الصيام في الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية:
تتفق الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية مع نظيرتها الكاثوليكية في الصوم الكبير باعتباره أهم وأعمّ أنواع الصيام ومدته خمسون يومًا أو خمسة وخمسون يومًا ولديهم طريقة فلكية لضبط وقته من عام إلى عام، حيث إن النسيء يحول دون وضع تاريخ ثابت له، وينبغي أن يبدأ بيوم الإثنين.
ولها أصوام أخرى أهمها:
أ- صوم الأربعين يومًا؛ ويصومون قبلها أسبوعًا سموه أسبوع الاستعداد وبعده أسبوعًا آخر سموه أسبوع الآلام.
ب- صوم الميلاد؛ ومدته أربعون يومًا من 25 من نوفمبر إلى 6 من يناير.
ج- صوم العنصرة (الرسل)؛ وتمارسه الكنيسة منذ عصر الرسل ليس عدد محدد من الأيام، ويترك أمره بيوم “أحد العنصرة”. فإذا زادت أيام الصوم، وإذا تأخر انقضت وتنتهي تقريبًا في 11 أيلول.
د- صوم العذراء؛ ومدته خمسون يومًا.
هـ – صوم نينوى؛ ومدته ثلاثة أيام، ويعتقدون أن يونس عليه السلام قد بدأ هذا الصيام ببطن الحوت (يونان 1: 17).
و- وللكنيسة صيام آخر متفاوت بين اليوم والثلاثة: ويُسمّى صيام البراموت (الاستعداد) (القس شنودة يوحنا: الصوم في كنيستنا القبطية الأرثوذوكسية، [ص:25]، ط 1963م، مطبعة الإسكندرية).
3- الصيام في الكنيسة البروتستانتية:
وتترك الكنيسة البروتستانتية مسألة الصوم الشخصي الذي يقرر فيه الصائم لنفسه الصوم، وكيفيته، وَفْقَ رغبته الشخصية النابعة عن إحساسه الذاتي، فإذا ما صام وأفطر يحلّ له أكل ما يشتهيه من المأكولات، فهو عندهم مستحب وليس بواجب. وتختلف الكنيسة البروتستانتية عن الأرثوذكسية القبطية؛ بأن الأولى تنكر الصيام والثانية تتمسك به” (د. علي الخطيب: الصيام من البداية حتى الإسلام، [ص:161-162]).
4- صيام طائفتي الأرمن والقبط:
إنّ أشدّ أنواع الصيام عند النصارى هو عند الأرمن والقبط: إذ يصومون الأربعاء والجمعة من كل أسبوع إلا ما وقع منها بين الفصح والصعود، ويصومون عشرة أسابيع من كل سنة، وهي:
– بعد الأحد الأول من عيد الثالوث.
– بعد عيد التجلي.
– بعد عيد الصليب في أيلول.
– بعد الأحد الثالث عشر من عيد الثالوث.
– بعد الواحد والعشرين من عيد الثالوث.
– الصوم السابق لعيد الميلاد.
– صوم الميلاد.
– صوم المر.
– صوم الفصح (بطرس البستانى: دائرة المعارف، جـ 11، [ص:70]).
وفي نهاية بحثنا عن الصيام عند النصارى أذكر ما اتفقت عليه الفرق النصرانية بخصوص الصيام، فهي قد رفعت الأناجيل من طريق التشريع وأبعدتها عن التوجه له، وأعطت الكنيسة وحدها هذا الحق، كما أنها لم تر بأسًا بالاتصال الجنسي بين الزوجين فهذا لا شأن له بالصيام ولا يفسده من قريب أو بعيد.
واختلفت في نقاط عدة منها:
– لون التكليف بالصيام، فلا اتفاق بينها على أن يكون فرضًا.
– لا اتفاق بينهما في بداية أو نهاية مدة الصيام، وأمر ذلك متروك للصائم ينهيه متى شاء ما دام لا يطيق الاستمرار على ذلك.
– الصمت يقبل عليه الكاثوليك أكثر من غيرهم، وله شأن في برامجهم الدينية.
– أقرت الكنيسة الكاثوليكية صيام السبت، ومنعه الأرثوذكس إلا في سبت واحد يقع قبل عيد القيامة مباشرة (د. علي الخطيب: الصيام من البداية حتى الإسلام، [ص:162-163]. وقارن: د. سعود عبد العزيز الخلف: دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية، [ص:268-269]، ط 1، 1418هـ / 1997م، مكتبة أضواء السلف – الرياض).
وفيما ذكرته يتضح لنا أن المسيح عليه السلام لم يصم أو يدعو إلى صيام ما صاموه آنفًا، فهو صام أربعين يومًا في البرية فقط. وجميع صيام النصارى متأثر بما توارثوه من الأمم الوثنية، خاصة الهنود والفرس واليونان والبابليين (بطرس البستاني: دائرة المعارف، ج 14، [ص:397]).
وفي المانوية فرض ماني عليهم صيام سبعة أيام أبد الدهر من كل شهر (ابن النديم: الفهرست، [ص:396]، وأيضًا: أرثر كريستنسن: إيران في عهد الساسانيين، [ص:183]).
ولم يكن الصيام موجودًا فقط في اليهودية والمسيحية والإسلام؛ بل كان موجودًا في سائر الأمم السابقة، عبر الزمان والمكان. بل إنّ كلمة الصيّام قد استقرّت في التيوتونية العتيقة (اللغة القديمة للشعوب الألمانية، والإسكندنافية، والإنجليزية)، وفي اللاتينية، واليونانية، كما احتل الصيام مكانة بارزة عند فارس، والهند، حتى قيل: “إن الصيام عُرْف دينيّ عالميّ (د. أحمد غنيم: فلسفة الصيام “في الديانة اليهودية، والنصرانية، وفي الإسلام”، [ص:6]).
وفي نهاية بحثنا أذكر أنّ الله تعالى بَيّن الغاية والهدف من الصيام بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
والصوم عبادة روحية تربوية تهذيبيّة ليس المراد منها صيام البطون عن الطعام، وإن كان للجسد نصيبه من فوائد الصوم، وإنما المطلوب أيضًا صيام الجوارح عن الحرام.
طريق الإسلام – ياسر منير