أحمد ثاقب يكتب :ماي فلاور تتعاطف مع سوريا عن «جرب العرب» وسفينة «ماي فلاور»
في دورة تصفحي اليومية لموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، صادفت صورة لطفل سوريّ، يقطُر الدُم من رأسه، ويكتسي وجهه بالرماد، سُرعان ما عرِفت أن اسمه «عُمران»، بعد أن قام عشرات الأصدقاء بمُشاركة صورته.
في نشرة الأخبار، لم تتمالك مذيعة قناة CNN نفسها أثناء عرض صورة «عُمران»، لتبكي الطفل المقصوف منزله، ويُصحب مقطع المذيعة الباكية بمئات التعليقات العربية الحانقة على العروبة اللائمة لها على ترك الطيران الروسي يستهدف الطفل«عُمران» بغير الانتصاف له، وكأنما قد اكتشفوا أن سوريا قد تم قصفها لأول مرة البارحة !
قبل «عُمران» بشهر لا أكثر، ذُبح الطفل الفلسطيني النازِح لسوريا «عبدالله عيسى» في مشهَد أكثر دمويّة، ليوثق لحظة الذبح مقطع فيديو يطلُب فيه الطفل ذي الإثنا عشر عامًا من أرباب جماعة «نور الدين زنكي» المُعارِضة السوريّة «المُعتدِلة» أن يُرمى بالرصاص بديلاً عن الذبح بسلاح أبيض! غير أن «عبدالله» ولسوء الحظ ، لم يجِد التعاطُف الإلكتروني الذي وجده «عُمران»، الذي لم يكُن سوى واحد من بين 4500 طفل ماتوا في حلب فقط على مدار 5 سنوات من القصف والحرب.
عُمران دنقيش، ومُذيعة CNN الباكية، والذبيح عبدالله عيسى ، ذكروني بإبحار السفينة «ماي فلاور» ، السفينة البريطانية التي أبحرت من أوروبا إلى أمريكا قبل حوالي أربعمائة عام ، ويؤرخ بإبحارها ببداية التاريخ المتأخِر لنشأة الولايات المُتحِدة الأمريكية.
لم تكُن «نيو إينجلند» كما توقع رواد سفينة «ماي فلاور» التي جاءت من إنجلترا عام 1620، ورسَت على السواحِل الأمريكيّة أنهم سيصطدموا بأن الأرض البكر لها سُكان أصليون. السُكان الأصليون من الهُنود الحُمر لم ينعموا بيوم سالِم بعد وطء البيض أراضيهم.. سرق الرجُل الأبيض الطعام والشراب، بل وأباد الهنود الحُمر وسلبهم حياتهم.
المُفارقة أن الهدف المُعلن من رحلة «ماي فلاور» كان تدشين مدينة فاضلة، تقتصر على الرجُل الأبيض، ولا تتخللها أعراق أو أجناس أدنى، هربًا من المجتمع الأوروبي الذي كانت قد تفشّت فيه الجريمة ، ولكن يبدو أن الجريمة كانت إحدى المهاجرين على متن «ماي فلاور».
في بداية الأمر، لم يجِد الرجل الأبيض سوى المستنقعات والغابات ليحصُل على قوت يومه ، فعلمه الهنود الحُمر كيف يصطاد، لكنه استكبر أن يركض في الغابات ويُطارد الفرائس، فما كان منه إلا أن وجّه فوهات بنادقه صوب الهنود الحُمر ليستولى على غذائهم ، ويُبيدهُم فيما بعد لتستمر دولة الرجُل الأبيض في القارة الأمريكية ، غير أنه ، وبالقضاء على الهنود الحُمر، لم يكفي مخزونهم من الطعام لوقت طويل، فاستعبد البيض الأفارقة، لكي يبقى الرجُل الأبيض مُعزز مُكرّم.
أعطت مذيعة الـCNN الأمريكيّة، سليلة رواد «ماي فلاور» شارة البدء لتعاطُف عربي مع الطفل «عُمران»، عندما بكته على الهواء مباشرةً لثوانٍ معدودة ، الأمر الذي أصابني شخصيًا بهيستيريا من الضحك ، فمن توجهنا إليه نحن ننتظِر إشارة التعاطُف مع أنفسنا، حضارته في جوهرها قوامها إبادة الآخر، وتنحيته من الوجود ، بدعوى أنه جنس أدنى.
أما الأكثر إضحاكًا، ليس احتقار الرجُل الأبيض لكُل آخر، بل احتقارنا نحنُ لذواتنا، وإيماننا بأننا لا نستحق التعاطُف ، فعُمران الطفل خير مثال على نظرتنا هذه لأنفسنا ، كضحية حربٍ قامت من سنوات خمس كاملين ، اختذلت جميعها في مأساة طفل، لمُجرَد أن الغربيّ قرر أن يبكيه ، ويتعاطَف معه، أما العربيّ، فهو من أطلق على نفسه بنفسه «العرب جرب»، لا يستحقون الرثاء ، أو الأسف ، أو التعاطُف ، حتى تظهر تلك الحسناء الشقراء تبكي على الشاشة.