عبد الحليم قنديل يكتب : برلمان يراقب الشعب

من أسوأ الأشياء في مصر الآن، أن النكات السخيفة تتحول كثيرا إلى قرارات وقوانين.

وعلى طريقة التعديل العجيب الذي أقره مجلس النواب في قانون السلطة القضائية، الذي يعطى رأس السلطة التنفيذية حق اختيار رؤساء الهيئات القضائية، وإهدار مبدأ الأقدمية الذي تعارف عليه القضاء المصري طوال تاريخه، وإهدار حق الجمعيات العمومية في اختيار رؤساء محكمة النقض ومجلس الدولة والنيابة الإدارية وغيرها، بل إهدار المبادئ الحاكمة للدستور ذاته، التي أكدت على الاستقلال الكامل للسلطة القضائية، وعلى أولوية الفصل والتوازن بين سلطات التنفيذ والتشريع والقضاء، ومنع تغول سلطة بذاتها على غيرها، وتصوير سلطة التشريع كأنها مطلقة، أو أن مجلس النواب هو «سيد قراره» والحاكم بأمره، وهي روح تسلط تبدو غريبة وطريفة، إذ أن البرلمان الحالي أقرب إلى «ميني برلمان»، انتخبه «ميني شعب».

ووصل غالب النواب لكراسيهم بعشرة بالمئة فقط من إجمالي الناخبين المقيدين، وقد لا يؤثر ذلك في شرعيته القانونية المجردة، وإن كان يأخذ من حساب الأهلية السياسية الفعلية.

نعم، سلطة التشريع لها حدود، ولها قواعد مرسومة في الدستور، الذي يؤكد على ضرورة أخذ رأي السلطة القضائية في أي تشريع يخصها، وهو ما كان موضعا لعملية دهس خشنة من مجلس النواب، ومن نواب تصوروا أن لهم سلطة إلهية، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالقضاء، أو حتى بالأزهر الشريف نفسه، الذي تحدث نواب عن نوايا إصدار تشريع جديد، يعطي رأس السلطة التنفيذية حق تعيين وإقالة شيخ الأزهر، بينما يعطى الدستور حق اختيار رؤساء الهيئات القضائية لجمعياتها العمومية، ويعطي هيئة كبار العلماء حق انتخاب شيخ الأزهر، ويعتمد رئيس الجمهورية تعيين الأشخاص المختارين، بينما لا يبالي بعض النواب بأحكام الدستور، ويتعاملون مع نصوص الدستور كأنها «مناديل كلينكس»، يحق لهم أن يغيروها متى شاءوا، أو أن يسقطوها من الحساب، حتى لو لم تتغير حروفها، وكأنها مجرد حبر يجف فوق الورق. وهذه كارثة حقيقية، سبق لمصر أن ابتليت بها طوال ثلاثين سنة من حكم المخلوع، جرى فيها وضع الدستور تحت الأقدام، وتعديل نصوصه بحسب المزاج والمقاس العائلي، وكان الانقلاب على الدستور انقلابا على الشرعية، وأساسا قانونيا للثورة التي اكتسحت حكم العائلة، وهو ما قد يصح أن يتذكره المتحمسون لإهدار نصوص الدستور، وعلى ظن أن أوراق الدستور هي «أوراق كوتشينة»، يمكن التلاعب بها تيسيرا لشؤون النفاق العمومي، مع أن أبسط الناس يدرك العواقب، ويعي جيدا درس ما جرى قبل الثورة الشعبية، ويعرف أن الانقلاب على الدستور هو انقلاب على نظام الحكم، وقد طرح المنافقون علنا ومرارا أفكارا لتعديل مدد الرئاسة المقيدة بمدتين في الدستور، مع أن الدستور نفسه ينص على حظر تعديل مواد الرئاسة والحقوق والحريات وكأن المشرع الدستوري كان يتحسب لتكرار المهازل، وفتح مدد الرئاسة من دون سقف، على طريقة التعديل الذي لم يستفد به الرئيس السادات لاغتياله في حادث المنصة، وورط البلد في حكم بليد راكد فاسد متخلف، امتد لثلاثة عقود كاملة، وكان يمكن أن يتصل زمنه إلى اليوم، لولا أن ثورة الشعب المصري سبقت إلى خلع مبارك وعائلته.

ولا بأس أن ينتبه ويتيقظ مجلس النواب إلى دوره التشريعي، ولكن ليس بالتغول على سلطة القضاء على نحو ما جرى ويجري، وإهدار أحكام نهائية باتة من محكمة النقض، على طريقة إهدار حكم النقض في إبطال عضوية نائب بعينه، وتوالت الشهور الطويلة دون أن ينفذ الحكم، مع أن الدستور أعطى لمحكمة النقض كلمة الفصل بالخصوص، ولا يعطي لمجلس النواب حق التعقيب، فما بالك بالتعويق، وإهدار نص الدستور وحكم النقض في نفس واحد، في الوقت الذي لا يكاد يسمع فيه أحد إلى صوت مجلس النواب، لو تعلق الأمر بدوره التشريعي والرقابي الأساسي، وبالذات في مواجهة تغول السلطة التنفيذية، التي تصدر القرارات دون رقابة حقيقية، ودون نظر استجواب واحد في البرلمان حتى الآن، والحكومة توقع على الاتفاقيات الدولية وتنفذها، ثم تتذكر متأخرة أن هناك شيئا اسمه مجلس النواب، لا بد من أخذ توقيعه بالمرة على ما جرى، وعلى طريقة الاتفاق الحكومي مع صندوق النقد الدولي، الذي وافق عليه البرلمان بعد أن شبع تنفيذا، وحصلت الحكومة على التوقيع البرلماني المضمون في أقل من ثلث ساعة، بينما يستأسد البرلمان في العصف بكرامة القضاة، ويتصور أن دوره هو مراقبة الشعب لا محاسبة الحكومة.

القدس

شكرا للتعليق على الموضوع