أمير تاج السر يكتب : ما لا تقوله السيرة العربية

عثرت مؤخرا على كتاب لم أكن قرأته من قبل، أو ربما قرأته قديما، أيام تعرفت إلى سكك القراءة، ولا أذكر. كان الكتاب عبارة عن مذكرات أو لنقل سيرة ذاتية لشخصية قديمة، يروي تاريخ حياة تلك الشخصية، ابتداء من نهايات القرن التاسع عشر، حين كان الكاتب صغيرا، يترك بلدته، ويتلقى العلم، هنا وهناك إلى أن كبر وحظي بمكانة رفيعة في المجتمع.

السيرة كتبت بطريقة آسرة وسلسة وحوت كثيرا من المعلومات المرادفة لرحلة طالب العلم، والمعلومات التي توضح مناخ الحياة آنذاك: مثل طبيعة المجتمع وشكل البيوت والشوارع، والناس، والملابس، وطبيعة الأكل والشرب، وحتى العنف اللفظي والبدني، والرشاوي والفساد الذي ربما يحدث، ولا يلتفت إليه أحد. ويتضح من ذلك، أن كثيرا من السلبيات التي نراها الآن، ونستغرب لها، ليست وليدة المجتمعات الحديثة أبدا، وإنما هي أصلا موجودة ومرادفة لأي مجتمع، مهما كانت الحياة وعرة وقاسية، والرفاهية منعدمة تماما، والمشقة حليفة لكل نشاط.

والمتتبع لمثل تلك الأعمال السيرية، حتى لدى الغربيين، يعثر على روابط كثيرة، تعيد الأشياء إلى جذورها، وتخفف كثيرا من اللوم الذي نبديه للمجتمع الآن كلما واجهتنا مشكلة، أو جريرة ارتكبت، ولعل مسألة السلب والنهب وترويع الناس التي تعرض الكتاب لشيء منها أيضا، تفسر تماما أن السلبيات تتطور، إلى أكبر من سابقتها، وتبقى دائما، وما كان يسلب قديما بالسيف والسكين، يسلب الآن بالرشاش، والقنبلة.

حقيقة، تبدو السير الكتابية دائما ممتعة، أو تشد الفضول إلى معرفة الكثير عمن كتبها، خاصة إن كان شخصا عظيما أو شخصا شكل وجوده ضوءا ما في وقت من الأوقات. لذلك لا نستغرب أبدا حين نجد السيرة الذاتية لأندريه أغاسي، لاعب التنس الأمريكي، كانت في زمن ما، أوسع الكتب انتشارا وأعلاها مبيعا؛ وسيرة الروائي غابرييل غارسيا ماركيز، سواء تلك التي كتبها بنفسه، وسماها «عشناها لنرويها»، أو التي كتبها الدكتور جيرالد فورد، حين صاحب ماركيز ثمانية عشر عاما، أيضا من الكتب التي شكلت قراءة مكثفة من الناس، وربما أكثر من روايات ماركيز العادية.

لقد قلت مرة إن السيرة يجب أن تكون حقيقية، أي أن تروي كل ما مر بالإنسان من تجارب، ولا تنحو نحو تنظيفها من السيء، والإبقاء على الجيد فقط، هذا إن أردنا لها أن تكون سيرة، وليس رواية. وكنت أؤمن بنظرية أن الكتابة العربية لن تأتي بسيرة متسخة يذكر فيها الراوي مغامراته، وغزواته، وعربدته، إلا نادرا جدا، ومن أشخاص لم يكونوا ليهتموا أصلا بأي شيء ولن يضيرهم إن لفظهم المجتمع أو أبقى عليهم داخله. لكن ما عثرت عليه في تلك المذكرات التي تروي وقائع في نهاية القرن التاسع عشر، حيرني تماما، فبالإضافة إلى ذكر علماء الدين، والجلوس معهم والتتلمذ عليهم، ذكر الراوي امرأة، باسمها، أغوته ذات يوم وقبل الغواية. كتب: تلك اللحظة غنجت، ومكنتني من نفسها.

راوي المذكرات هنا لم يخجل من كونه عربيا في بلاد عربية، وقد تؤخذ عليه هفوة الصبا تلك، وتقلل من شأنه، هو يذكر الأشياء كما حدثت، ويذكر تفاصيل غاية في الخصوصية. لكنها جزء من حياة حدثت بالفعل، ولا يمكن إلغاء حدوثها بأي شكل من الأشكال، والغريب أنها في قرن ماض، وكتبت السيرة، ربما في عشرينيات أو ثلاثينيات القرن الماضي، حين كان الناس ما يزالون بعيدين عن الأفق الكتابي السردي، ومعنيين بالشعر المسمى ديوان العرب.

أظنني أعجبت بتلك الجرأة التي لن يقدر عليها كثيرون حتى في أيامنا هذه، الجرأة التي تقول إن الحادث، قد حدث، ولتأتِ تداعياته كيف شاءت. وأذكر أنني، وأثناء تتبعي للمرويات الشفاهية، سعيا لتحسين خيالي، وإكسابه شيئا من القوة، كنت أجلس مع كثيرين فيهم مسنون، واجهوا الدنيا وواجهتهم، ويملكون حصيلة من معطيات السير، لو كتبت لأغنت المكتبة السيرية. كنت أسمعهم يتحدثون بصراحة شديدة، عن مغامرات جنسية، ويتحدثون عن السكر والتشرد والتوهان في الشوارع، ولا يحفلون بأحد من الجالسين. الشيء الذي لن يحدث هنا، هو أن هؤلاء يظلون يحكون حتى تتوقف ألسنتهم، لكنهم قد لا يجدون تلك الجرأة التي تجعلهم يوثقون الحكي ذلك في كتب.

نحن الآن نقرأ سيرا كثيرة، سيرا لمناضلين ورؤساء وملوك ولاعبي كرة وأدباء ولا نجد فيها سوى الإيجابيات. الواحد من هؤلاء يكتب عن شجاعته ونخوته، ومواجهته للظلم، وعلو صوته، ولا يكتب أنه شرب العرق مثلا، أو غامر مع فتيات عرفهن، وأنه غدر بأنثى، أو ترنح في حفل ضاج، وسخر منه الحاضرون، هكذا… ولو كتب ذلك، قد يفقد الكثير من الهيبة والمكانة.

منذ أسبوعين كنت أتحدث مع زميل لي عن موضوع كتابة السيرة لجيلنا، حيث لا توجد سير بمعنى السير، كما لاحظت ولاحظ الزميل. وما هو مكتوب ربما، شيء من السيرة، بعض رذاذ أو رماد، مثل كتابة تاريخ العمل لواحد عمل موظفا في إدارة ما لفترة من الزمن، مثل كتابتي عن مدينة بورتسودان، وعن عيادتي في حي النور الشعبي، في أحد أطراف المدينة وتلك حكاوي في مجملها ورغم إرباكها لي في حينها، إلا أنها لم تكن ذات منحى يخجل المرء من كتابته.

كان الصديق متطرفا بعض الشيء في حديثه، وذكر بأنه حين يقتنع أساسا بجدوى كتابة السيرة، سيكتب سيرته على علاتها، غير عابئ بأي شيء، حتى الأسماء سيكتبها كما هي، ولن يغير حدثا واحدا، من أحداث جرت ومن حقها أن تبقى كما هي.

الكلام سهل بالطبع، ولكن أن يشرع المرء بالفعل في شيء عملي، هذا هو الجزء الأصعب من المهمة. سنكون كلنا بالضبط مثل أولئك الشفاهيين، نتحدث عن أشيائنا في المجالس وبين الأصدقاء ولا نكتبها.

منذ سنوات كنت بدأت أكتب مواقف صغيرة مستوحاة من السيرة، سميتها خامات الكتابة، وفيها أتحدث عن شخصيات التقيتها يوما ما، وشكلت لي هاجسا معينا، مثل ممرض عثرت عليه نائما، في عنبر، في مستشفى ريفي عملت فيه. مثل رجل أمن دخل بسلاحه أحد العنابر النسائية وأشهره في وجه الممرضة، ليلفت نظر مريضة يحبها، كانت نائمة في العنبر. مثل المغني الذي كان يملك ورشة للنجارة، وينفق وقته في تلحين القصائد، ولا يمس الخشب ليحوله إلى أثاث أبدا.. وأظن أن تلك الخامات تصلح لتكون نواة لسيرة كاملة، وأيضا بعيدا عن تلك المواقف التي قد تمس أحد أو تجرح أحدا.

لقد كانت مذكرات الرجل القديم، إذن مكتوبة بجرأة نادرة ولا أعرف كيف استطاع أن يطأ الدهشات كلها، ويكتب مواقف لن يستطيع كتّاب المذكرات اليوم أن يكتبوها.

كاتب سوداني

شكرا للتعليق على الموضوع