طبنجة ميري “قصة قصيرة”

قسم الحاج مخلص بأيمانات الله ، والمسؤول عن يمينه أمام ربنا أنه أول يوم شاهده فيه ، وهو جالس أمام معرضه كعادته كل صباح ، تحت مظلة من قماش ملون يحتمي بها من أشعة الشمس الشديدة ، يحتسي كوبا من الشاي من عمايل يد البنت نوال ، التي تعمل عنده في تنظيف المعرض ، عندما وقفت خلف الستار الداكن الموضوع علي الباب، ثم نادت عليه بصوت منخفض التفت إليها مشيرا لها أن تضع الكوب علي الطاولة المجاورة للباب ، وتنصرف إلي حال سبيلها ، شرب قليلا من الشاي وهو يكمل قراءة جريدته التي يحضرها الولد سمير بائع الجرائد والمجلات صباح كل يوم ، عندما ينزل من فوق دراجته ويسحب من الشقة -المصنوعة من الجريد والمبطنة ببقايا جرائد قديمة- جريدتان من الأخبار ، ثم يركن الدراجة علي حاملها ، ويضعهما في الشنطة البلاستيكية المدلاة ، يكون الحاج قد بدأ في السحب لأعلي ، يقفز مرة أخري فوق دراجته ، وصوته يتعالى : أخبار ، أهرام ، حوادث .

وقتها يكون الحبل قد وصل إلي الدور الخامس ، حيث يسكن الحاج مع زوجته دلال أم وردة ، الطالبة في الصف الثالث الإعدادي ، أما عن هذا اليوم بالذات فهو يتذكره جيدا كأنه الأمس ، حيث أنه كان مستغرقا في قراءة الجريدة ، ويشغل تفكيره جريمة غريبة قرأ بعضا من تفاصيلها ،التي نغصت عليه يومه ، وجعلته لا يكمل قراءة باقي التفاصيل.

هو نفسه عندما قال له بصوت يكاد يسمع :عايز شغل؟!

أغلق الحاج صفحة الحوادث ، وتفحصه بعينين مدققتين ، محاولا نسيان ما قرأه عن ولد ربما في نفس هذا السن ، ولكن بتفاصيل مختلفة ، تأكد ظنه أنه بصغر سنه يمكنه أن يكون بغيته ، التي يمكن أن يسخرها حتي يعرف- عن طريقه – كل كبيرة وصغيرة ، عن الصنايعية الذين يعملون عنده في المعرض ، ولكن كيف يواجههم به . عليه أن يجد سببا مقنعا ، يقنعهم بما يقوله لهم : إنه قريبه مثلا؟!

حتي هذه الكذبة لن تكون مقنعة وبالخصوص علي أمين البياع فهو كلامنجي ولن يأكل معه هذا الكلام ، وهل من المعقول أن يكون هناك قريب للحاج مخلص بجلالة قدره ويكون فقيرا معدما مثل سري هذا؟!

حتي الولد حسين الصعيدي لن تفوت عليه هذه الكذبة ، وبالتأكيد سوف يسأل بخبثه المعهود عن بقية الأسرار .

فطن إلي حيلة ربما كانت أكثر دهاء مما يتصور الجميع ، فلو تركه يذهب لأمين البياع ويحاول أن يجعله يتوسط له لكي يعمل بالمعرض ، بالتأكيد ستمر عليه اللعبة ، ومن مصلحته أن يكسب سري في صفه ، ويجعله تحت إبطه ، ويضمن ولاءه وعدم نقل أي شيء من خبايا المعرض ، ولكن سري بالتأكيد سوف يبلغني بكل كبيرة وصغيرة كما أفهمته ولو قابل الولد حسين الصعيدي فهذا أمر جائز ومتوقع إما علي السلم أو في إحدى الأدوار لأن شغلته حمل الأطوال التي لا يمكن وضعها في الأسانسير ، ويمكنه أن يكسب وده لو مد يده وحمل شيئا مما يحمله حسين حتي ولو كانت برنيطة الدولاب ، فينظر إليه بمكر وربما سأله :

-أنت اشتغلت هنا معانا؟

-أه النها رده.

-جاي أساعدك في شيل الشغل؟

وربما سمع صوت البنت نوال وهي تدندن بكلمات أي أغنية فلو رأته سوف تبتسم في وجهها ولن تتكلم معه فلابد أن يبدأ هو بالسؤال عن طريقها : أين يكون أمين البياع؟

أجلسه إلي جواره ومد له بزجاجة مملؤة بالمياه الباردة شرب منها حتي ارتوي ثم صب ما تبقي منها علي رأسه ووجهه حتي استطاع أن يركز في كلام الحاج ويفهم طبيعة شغلته نظر إليه الحاج قائلا: أنت عيني التي تري لي؟

تأكد الحاج من نجاح حيلته ، ثم جذب الولد سري من كتفه ، وقد سالت المياه علي وجهه ، وبدأ يفهمه الخطة كما رسمها ونبه عليه أن كل ما سيدور بينهما الآن لا ينبغي لمخلوق أن يعرفه ثم راح يكمل باقي تفاصيل الجريمة التي كان يقرأها.

دخل سري إلي صالة المعرض بخطي مرتعشة ، ينظر يمينا ويسارا حتي انتهي الممر الطويل ، الفاصل بين غرف النوم ، والسفرة والصالونات حتي وصل إلي سلم جانبي ، بدأ الصعود حتي تهادي إلي مسامعه صوت يشدو بكلمات أغنية شعبية ، اتجه ناحيتها فأحست به ، وقفت ويديها في وسطها فبادرها بالسؤال كما علمه الحاج :

المعلم أمين البياع فين؟

أشارت له بأصبعها لأعلي ثم عاودت فرش النيش بالمفارش المذهبة ، ووضع بعض التحف الصغيرة بشكل منتظم به ، وهو مازال يتابعها بعينين فاحصتين وما أن وضع قدمه علي السلم ، حتي انفتح باب الأسانسير وخرج منه شاب قصير أسمر يتصبب عرقا ، يرتدي بنطال أزرق غامق يحمل كومودينو فوق ظهره فتبعه سري حاملا الكومودينو الأخر ، وسار خلفه دون كلمه وضعوهما علي الأرض وجلسا فوقهما

-أنت حسين الصعيدي؟

-الحاج شغلك معانا؟

-أه عشان أساعدك.

سأله عن المعلم أمين البياع فأشار ناحية الأسانسير ركبا وظل حسين يتفحص سري من ساسة حتي أصغر اصبع في قدمه وعند فتحه للباب سمعا صوت أمين والمنجد وهما يضحكان بصوت عال وما أن راه أمين حتي نظر إلي وجه حسين

-أنت تبع مين؟

ـ بسأل عن شغل والبنت اللي تحت قالت لي: اسأل المعلم أمين؟

أشعل أمين سيجارته ونفخ دخانها في وجه سري قائلا : أنت منين؟

شربين؟

تفحصه جيدا بوجهه المستدير وعوده القوي قائلا: ها شغلك بشرط أن تكون أعمي وأطرش وأخرص؟

هز الولد رأسه وأضاف الكلمات التي حفظه لها الحاج :

أنا من ايدك دي لدي

اتجه أمين إلي مكان الدندنة وفجأة تعالت ضحكاتهما وهي تجري هربا منه ثم نزل مرة أخري إلي صالة المعرض حيث ترك سري فوجده كما هو لم يتحرك فسأله: سمعت حاجه؟

-أنا لا أسمع .

ضحك أمين وهو يربت علي كتفه والبنت نوال تتابعهما من بين فتحات الدرابزين وهي تبتسم لأمين فانتبه إلي سرواله فعدل ملابسه.

– جدع ياض تعجبني.

عادت ملامح وجهه لطبيعتها وجف عرقه ، ثم قال :قول للحاج أنك من طرفي؟!

كانوا يحملون بعض الأكياس وهو يسير متجها ناحية الأسانسير بادره أمين وهو يشير ناحيتي : تبعي يا حج؟!

فمد لي الحاج الأكياس وهو يشير لأعلي. هبت علينا رائحة مميزة جعلت الجميع يتلفت ناحيتها . كانت وردة فأشار لي الحاج بالصعود معها.

سوف أقول له ما سمعته وهو يعرف كما يحلو له ، هل قالت :أحمد أم حمد؟

الأمر لن يختلف كثيرا ربما كان زميلا لها أو أحد أقاربها ولكن لماذا تخفض صوتها وهي تتكلم في التليفون وتنظر ناحيتي بحرص شديد ؟ الغريب في الأمر لماذا طلب مني الحاج أن ألحق بها؟

وصل الأسانسير إلي الدور الخامس فخرجت وردة برائحتها التي عبقت المكان كله ثم ضغطت علي جرس الباب فبدت أمامي بجسدها النحيف ترتدي بنطال من الجينز وبلوزة عليها وردة كبيرة من الأمام والخلف متعددة الألوان . تهلل وجه دلال أم وردة وهي تنظر إليّ وتشير ناحية المطبخ المقابل للباب وللوصول إليه عليك أن تمر من أمام غرفتين علي يمينك أظنهما غرفتا نوم وردة ودلال التي تبعتني حتي مدخل المطبخ وهي تسألني :لقيت كوارع؟

هززت رأسي باسطا كفي لأعلي مادا شفتي السفلي :

يارب تجي بفائدة!

فتحت باب الثلاجة السفلي وانحنت فبدت مفاتنها أمامي بقميصها الحريري الذي وضح بعضا منه من تحت الروب الحريري بمبي اللون ، جذبت بعضا من أصابع الموز وحبتين من التفاح ووضعتهما في يدي . كان وجهي قد بدا عليه تفاعلي مع انحناءات جسدها اللين عندما ابتسمت وهي تجفف حبات العرق المتناثرة علي جبيني وهي تسألني : بتحب الكوارع؟

لم أنطق حرفا ولكنها أصرت علي أن تعطيني التفاحة .

في منتصف الممر الفاصل بين المطبخ وباب البيت لمحت وردة وهي تفرد شعرها الأشقر وجسدها النحيف ملفوف داخل روب مربوط من الوسط بحزام قطني وهي تنفض شعرها بيديها ثم رمته خلف ظهرها فبدا أمامي عندما تحركت فظهرت العلامة من بين الفتحة الأمامية للروب ، فمكانها لا يتاح الا لمن تعرت له!

قضمت التفاحة وأنا أنظر ناحية دلال وهي تسد الباب بجسدها وتمسك باصبع الموز في يدها.

ركبت الأسانسير وإذا بالباب يفتح وتدخل نوال وهي تحمل جردلا من البلاستك نظرت إليّ ورأسها يعج بأكثر من سؤال ولكنها بالطبع لن تسألني من باب أبعد عن الشر!

بعد ما رأيتها بين أحضان الحاج ولكنها تعرف جيدا أنني لن أتكلم مع أحد ربما لأنها رأت الحاج وهو يخرج من بين كومة ضخمة من فئة المتين جنيها ورقة كبيرة وضعها في جيبي . معها انتفضت البنت وهي تلملم ملابسها وتحكم اغلاق الجيبة السوداء ولكنها تركت في عقلي علامة لا تبرحها أبدا ، عندما وجدت حسنة بنية اللون تحت ثديها الأيسر بعدما تركته يد الحاج فتكشف أمامي قبل هبوطي عليهما كالموت ، وإن حدث هذا مع الحاج فهذا جائز أما أن يتكرر ذلك مع أمين في الدور الرابع علي الأنترية فهذا ما أدهشني فعلا حيث هب أمين واقفا وهو يغلق سرواله ويسرح شعره علي جانبه الأيمن.

وصل في نفس موعده أوقف دراجته علي حاملها وسحب جريدتين ولكنه لم يجد الشنطة مدلاة كالعادة فتح احداهما فوجد الخبر باللون الأحمر وصورة الحاج مخلص موضوع علي عينيه شريط أسود .

السيد شليل

تاليف : السيد شليل

قاص وروائى : مصر- دمياط 

اقرأ للكاتب :

الفانوس “قصة قصيرة”

 

شكرا للتعليق على الموضوع