عبد الله السناوي يكتب : من يحسم الرئاسة الفرنسية “ماكرون” أم “لوبن”؟

وفق استطلاعات الرأى العام فإن فرص الأول شبه مؤكدة وحظوظ الثانية شبه مستحيلة.

مع ذلك فإن هناك من يحذر من مفاجآت تقلب المعادلات السياسية رأسا على عقب ــ كالتى صاحبت صعود «دونالد ترامب» بخطابه الشعبوى إلى البيت الأبيض، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى باستفتاء دعا إليه رئيس وزرائها السابق «ديفيد كاميرون» وأطاحه من منصبه.

خشية الانقلابات المفاجئة تعبير صريح عن اضطراب سياسى تعانيه فرنسا بتآكل الثقة العامة فى مؤسساتها الحزبية، التى تداولت السلطة على مدى نحو ستة عقود منذ تأسيس الجمهورية الخامسة.

كلا المتنافسين على المنصب الرئاسى جاءا من خارج السياق ــ «ماكرون» يطلب تجديد المؤسسة باسم الثورة عليها و«لوبن» تطلب انقلابا كاملا فى قيم الجمهورية الفرنسية على الرغم من سعيها لخفض حدة الخطاب حتى تكسر حلقات الحصار عليها.

بأية درجة يكون التمرد على المؤسسة؟

ذلك هو موضوع الصراع، الذى ينطوى على رؤيتين للعالم ــ كما يقال عادة فى فرنسا.

بصورة أو أخرى فإن «أفيال المؤسسة» حاضرة فى المشهد وحاسمة فيه على الرغم من هزيمتها المهينة فى صناديق الاقتراع.

بنفس القدر فإن كل شىء سائل وملتهب فى المشاعر العامة وكتل التصويت يصعب أن تتحكم فيها تلك الأفيال.

على الرغم من استدعاء سيناريو الانتخابات الرئاسية عام (٢٠٠٢)، التى حسمها الرئيس الأسبق «جاك شيراك» بنسبة (٨٢‪.٢٪) مقابل (١٧‪.٨%) لـ«جان مارى لوبن» مؤسس حزب «الجبهة الوطنية» الذى أطاحته ابنته الطموحة فى انقلاب عائلى، وهو يفترض درجة عالية من التماسك والتوحد بين مكونات الحياة السياسية لوقف تقدم اليمين المتطرف، إلا أنه لا يمكن إغفال أن فرنسا تغيرت بعمق على مدى خمسة عشر عاما تولى الرئاسة فيها «شيراك» و«نيكولا ساركوزى» اليمينيان و«فرنسوا أولاند» اليسارى، الذى لم يترشح لدورة ثانية بإدراك أن شعبيته تقوضت وأنه ليست لديه فرصة لربحها بينما لم يصل سلفه إلى الاستنتاج ذاته وخسر الانتخابات السابقة، كما خسر سعيه للترشح مجددا فى الانتخابات الحالية باسم حزبه.

أرقام الاستطلاعات، التى أعقبت الجولة الأولى، تعكس مستوى التدهور ومداه، فـ«ماكرون» يحظى بنسبة دعم (٦١٪) مقابل (٣٩٪) لـ«لوبن».

الأرقام موحية بتدهور قيم الجمهورية، التى أضفت على فرنسا ثقلها المعنوى فى عالمها وألهمت دولا وشعوبا، تمهد لانقلابات شعبوية قد لا تتأخر كثيرا.

نحن نتحدث عن أن ما يقارب نصف الفرنسيين مستعدون لمنح أصواتهم لليمين المتطرف ــ بذرائع الأمن والهروب من الأسباب الحقيقية لما تعانيه بلادهم من أزمات وتشيع فى أوساطهم ثقافة معادية للإسلام وكل ما يرتبط به بينما النصف الآخر لم يعد يتردد فى استخدام مصطلح «الإرهاب الإسلامى» بكل ما يحمله من رسائل سلبية.

نسبة الدعم المفترض لـ«لوبن» فى جولة الحسم منذرة بتداعيات مستقبلية، إذا عطلت اليوم فإنها مقبلة لا محالة.

مع ذلك فإنه لا ينبغى التهوين من قدرة الإرث الثقافى الفرنسى على المقاومة والصد ورفض تعليق الأزمات على المهاجرين والأقليات العربية والإسلامية والإدراك فى نفس الوقت أن اليمين المتطرف وجماعات الإرهاب يتغذى كل منهما على خطاب الآخر، وقد عزز حادث الشانزليزيه الإرهابى فرص «لوبن»، التى لم تتورع عن توظيفه ونسبة أزمات فرنسا إلى الحدود المفتوحة مع الدول الأوروبية وتحكم الاتحاد الأوروبى فى القرارات السياسية والاقتصادية والأمنية.

فى المعادلة نفسها فإن جماعات العنف والإرهاب تحتاج إلى الخطاب اليمينى المتطرف لكى تجند وتروع وتختطف الإسلام كله.

ربما تتحسن فرص المرشحة المتطرفة إذا ما جرت عملية إرهابية جديدة قبل جولة الحسم فى (٧) مايو.

بصورة ما يبدو «ماكرون» اختراعا سياسيا فى وقت حرج لمنع دخول «لوبن» قصر«الإليزيه» على أنقاض مؤسسة فقدت صدقيتها.

هذه هى المرة الأولى التى يخوض فيها أية انتخابات، وهو بلا خبرة سياسية يعتد بها عكس أسلافه من الرؤساء الفرنسيين، برنامجه أقل تماسكا من «فرنسوا فيون» اليمينى الجمهورى الذى حل ثالثا فى الجولة الأولى، وشخصيته أقل كاريزمية من «جان جاك ميلانشون» اليسارى المتشدد الذى حل رابعا بفارق ضئيل.

صعد نجمه على حساب مرشحى الحزبين الكبيرين بأثر تقوض الثقة العامة فى المؤسسة الحزبية التقليدية كلها والضجر بوجوهها وصراعاتها ومعدلات الفساد العالية فى بنيتها وعجزها عن حلحلة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية بصورة مرضية.

بين الأطلال المتداعية للمؤسسة فهو مرشح أن يدخل بعد أيام قصر«الإليزيه».

لا يمكن أن يعزى ذلك الصعود، الذى لم يكن متوقعا على أى نحو وبكل حساب قبل عام واحد عندما شرع فى تأسيس حركة سياسية جديدة أطلق عليها «إلى الأمام»، إلى تلك الحركة الناشئة وقدرتها على إلهام طريق جديد لفرنسا.

بالتكوين السياسى فهو يمين وسط وأقرب إلى حزب «الجمهوريين» من الحزب «الاشتراكى» الذى تولى موقعا وزاريا فى حكومته على عهد الرئيس «أولاند».

درج الإعلام على وصفه بـ«مرشح الوسط»، وهو تعبير يحتاج إلى تدقيق، وقد لا يعنى شيئا ممسوكا فى التعرف على شخصية الرجل الذى يوشك أن يدخل التاريخ كأصغر رئيس أو حاكم منذ «نابليون بونابرت».

هناك فارق بين الأوصاف الإعلامية والانتخابية وبين البرامج والسياسات التى سوف يتبعها، فعلى الرغم من أنه يخاطب الرأى العام الضجر من المؤسسة باسم الثورة عليها إلا أنه فى حقيقة الأمر يضخ دماء جديدة فيها كأنه اختراع بالوسائل الديمقراطية لتجديد المؤسسة لا نفيها.

بصورة ما فإن ما قاله الرئيس الفرنسى المنتهية ولايته «أولاند» من أن «ماكرون هو أنا» يصادف الحقيقة من حيث التوجهات العامة.

لم تكن مصادفة أن الاتحاد الأوروبى تنفس الصعداء بعدما تصدر الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية وتوجه كتل رئيسية من الحزبين التقليديين لدعمه فى جولة الحسم، فهو مؤيد للاتحاد كما أنه ينزع لذات الخيارات الدولية التى انتهجها سلفه ربما بشىء من التعديل المحدود لكنه لا انقلابات داخل المؤسسة ولا عليها.

بالقدر ذاته فإنه يحظى بدعم كبير وواضح من التكتلات المالية بثقلها فى الصياغة العامة لتوجهات المؤسسة.

القضية الحقيقية الآن ليست أن يفوز «ماكرون«، ذلك شبه مؤكد إذا لم تفلت الكتل التصويتية بالغضب أو الاحتجاج، بالامتناع عن الذهاب إلى لجان الاقتراع أو التصويت بأوراق بيضاء، بقدر ما هى الاستجابة لمتطلبات التغيير فى بنية المعادلات السياسية الفرنسية دون إخلال بقيم الجمهورية.

هذه ليست مسألة هينة، فالرئيس القادم بلا سند حزبى فى البرلمان والمحليات، وبلا آلة سياسية تسند سياساته وسط رأى عام مضطرب قد ينظر إلى التوافقات المحتمة، التى سوف ينتهجها مع «أفيال المؤسسة» كأنها خديعة.

اونا

اقرأ للكاتب : 

اعتذار إلى عبدالناصر

شكرا للتعليق على الموضوع