المــوْءودة “قصة قصيرة”

قطع الله أبي.. زجّ بي في زيجة لو خيّرت بينها وبين الجحيم لاخترت الثّاني.. قطعني عودا طريّا من دوحته، ورمى بي في جحر الثّعبان ( زوجي ).. كان من خلصائه وخلاّنه.. عقد الشّيطان بينهما بعقد الخمرة، فآثراها وفضّلاها عليّ تفضيلا..

     ذات قعدة في قلب الواحة، يتصدّرها “القيْشم” ولحم الكلاب، صدر قرار إعدامي من الحياة.. ليس بسلّ الرّوح دفعة واحدة، ولكن بإخراجها محطّمة من جسدي كدقائق الزّجاج.. ومن يدري ربّما استمرّت حالة الإعدام هذه مدى العمر..

     والخمرة تحوّل دماغ أبي إلى رغوة كريهة، قرّر ذبحي من الوريد إلى الوريد ولمّا أتجاوز سنّ الطّفولة.. طلبني منه الشّيطان( زوجي ) وأنا مجرّد طفلة بلهاء لا تفرّق بين بياض الفلوس وصفارها فوافق على الفور…

صرخت أمّي.. شقّت جيبها.. لطمت.. ولولت.. هدّدت بحرقي وحرق نفسها، لكنّه ظلّ على رأيه القاهر، لا يملّ من أن يردّد: ” الكلمة إذا خرجت، خرجت من مخارج الرّوح..”

ويصمت ولا يزيد عليها..

قطع الله روحك يا أبي.. ليتها خرجت في ذلك الحين.. قطعت أحلامي ودراستي ووأدتني حيّة في حجر الشّيطان..

     زوجي، رجل شديد الأدمة كخشبة محروقة.. دميم الخلقة.. نحيف مثل الرّمح.. طويل كسارية.. شديدة رائحة عرقه.. اختلط لحمه وعظمه بماء الكسل والخمول، فلا يضرب في الأرض إلاّ قليلا.. إذا ملك ثمن قارورة “لاقمي” كان كمن ملك الدّنيا، سريعا ما ينفقه فيها فيعود بعدها أجوع من فأر في كنيسة..

إذا تغشّاني، تغشّاني كالبغل.. ولا يفعلها إلاّ سكرانا كريه الرّائحة.. يفعل بي ما تفعل الآلة، لا يكلّ ولا يملّ حتّى يتنفّس الصّبح.. وكان ولا بدّ وهذه حالتي معه، أن ألد قبيلة من الأشقياء، رغم موانع الحمل وكراهتي الشّديدة لأبيهم…

     عضّني الجوع وبَنيّ في البداية، والمشؤوم زوجي لا يحرّك ساكنا.. ينام حتّى فوات الزّوال، ثمّ يخرج فلا يعود إلاّ آخر اللّيل، سكرانا مترنّحا لا يمسك طوله.. يطلب عشاءه، فلمّا لا يجده يجلدني ويضربني حتّى تنزّ الدّماء من جلدي !

في الصّباح أبثّ همّي وحزني إلى أبي، فيردّني إليه ردّا قاسيا غليظا، إذ ذهب في أعراف النّاس أن لا تترك الزّوجة الأصيلة بيت الزّوجيّة مهما تتعرّض له من ذلّ وهوان..

وما الضّير في أن أضرب وأقبّح.. أليس هذا مصير النّساء في هذه البلاد الموبوءة ؟

أولم يكن ذاك مصير أمّي من قبل ؟

     عملت في البيوت زمنا، غير أنّ لوثة الرّجال – قطع الله الرّجال- ضيّقت عليّ سبل الرّزق، وجعلتني أمام مقايضة قبيحة.. إمّا الرّغيف، وإمّا أن أبيع لحمي !

في حمّام النّساء كان مستقريّ الأخير .. من درن الحرائر وقاذوراتهنّ، وما لا يرغبن فيه على أجسادهنّ، فتحت لنفسي بابا من الرّزق.. كفاني والحق ّ يقال أنا وأبنائي ذلّ السّؤال.. لا نعيش رغد العيش.. لكنّنا أيضا لا نعيش مرّه وقراحه..

رغم ذلك فإنّ، العذاب مازال يلازمني كقطعة منّي.. كالعادة ينام المأفون إلى ما بعد الضّحى. ثمّ يخرج بعد أن يسلبني مالي، فلا يعود إلاّ آخر اللّيل.. يقبل عليّ سكرانا مترنّحا لا يعي شيئا.. يقضي وطره منيّ كالبغل، قبل أن يستلقي على ظهره إلى جانبي مثل الجثّة، نتن الرّائحة، طليق الشّخير.. إنّه قدري.. بؤسي الأبدي، وشقائي المقيم…

     اللّعين.. كأنّ السّماء تتظاهر معه عليّ.. لا هي تكتب عليه الموت حتف نفسه، ولا حتف غيره.. تبارك في جسمه فلا يسقم ولا يمرض.. ولا تبدل من حاله فأحيى كأشباه النّساء..

أقسم أنّي سأقتله يوما.. قيل أنّ عرق الدّفلة يقطّع الأحشاء على مهل.. سأسقيه منه.. أقسم أنّي سأفعل ذلك…

حسن السّالمي
تاليف : حسن السّالمي- تونس

شكرا للتعليق على الموضوع