ندى شحادة معوّض تكتب : حس الجمال … كيف نصقله؟

ما هو السر وراء توق الانسان الدائم الى الجمال؟ كيف يمكن لنا أن نعبّر عن الجمال او حتى أن نصفه عندما تفلت منا الحروف وتستحي الكلمات لعجزها عن التعبير، لا سيما عندما تأخذنا الغبطة لدى رؤية جمال فائق يشعرنا بذلك الانخطاف المحبّب؛ وكأن هذا الجمال الماثل أمامنا بدأ يأخذ بعداً مقدساً فلا يسعنا سوى ان نخرّ في خشوع ونستسلم للتأمل في روعته الاخاذة.

فما هو الجمال؟ بل ما هي حقيقة الجمال؟ هل هو جمال الجسد والقوام، أم نضج الشخصية وتألق الحضور؟ هل حلو الكلام أم أناقة التعبير؟! هل الجمال في الفن هو ألوان منسجمة ونسبٌ متناسقة وحسب؟ وهل يكمن جمال فن الادب مثلاً في كون الكلمة تصوير يتهادى معنىً، أم هو في بلاغته عشق بين “روح” المغزى و”ذات” المعنى و”جسد” المبنى- في دقةٍ ورقةٍ وقوة – دقة التعبير في رقة المشاعر وقوة الفكر…؟ لطالما كان هدف الفن هو الجمال ولطالما كان كل فن ذو قيمة يرمز الى الحقيقة عبر وسائل وانماط وادوات مختلفة من التعبير… ذلك لأن التعبير هو جوهر الابداع الفني… مهما تكن الإجابة، نلاحظ ان بين الاشياء الجميلة طابع مشترك اوصفة خاصة تضفي عليها سمة الجمال كالتناسق والانسجام والمنطق المتين اذا ما تكلمنا عن جمال المواضيع الفكرية مثلاً.

يفيد علم الكلـِم semantics بأن مصطلح علم الجمال Aesthetics مشتق من الكلمة الاغريقية Aisthanesthai التي تشير الى فعل الادراك to perceive، وأيضا من كلمة aistheta التي تعني الاشياء القابلة للادراك things perceptible. بالتالي نستنتج أن تذوّق الجمال لا بد وان يكون على صلة قوية بالعقل. لأن ادراك الجمال هو نتيجة علاقة بين الشيء الجميل والعقل الذي يدركه. والعقل هو أداة الوعي عبر الفكر كما هو معلوم. فما علاقة الجمال بالوعي وهل يمكن للإنسان ان يطوّر حس الجمال لديه، وكيف يتم ذلك؟

كلما سألنا عن الجمال، أوّل ردٍ نسمعه هو: “الجمال نسبي”، فما يبدو لي جميلاً قد لا يعجب الآخرين، والعكس صحيح. ولكن دعونا اليوم نتفكّر عميقاً في هذه العبارة، ولنسأل انفسنا: هل جمال الاشياء او تألقها يتأثر بثقافة أو باختلاف آراء المشاهدين او النقـّاد؟ والجواب هو: كما ان المعرفة لا تكبر ولا تنمو انما ذواتنا هي التي تكبر بالمعرفة وتنمو بها… كذلك الجمال لا يتغير ولا يتبدل في عالم الحقيقة؛ اما في عالم الواقع فإن ادراكنا له يُصقل، وفهمنا له يَتوسع كلما ارتفعنا درجة على سلم الوعي…

إن تقوية حس الجمال في النفس هو تفعيل عملية استشفاف الجمال في كل ما حولنا من خلال الانفتاح الفكري – المشاعري أولاً. فاستشفاف الجمال من خلال الانفتاح هو بالدرجة الاولى حالة تفاعل وتواصل مع الآخر، مع الحياة ومع الاشياء من حولنا… إنه حالة مد وجزر، حالة عطاء وأخذ تمثل مدى حركة الوعي في الكيان. ولأن التفاعل هذا يختلف بين شخص وآخر نتيجة لتباين نسبة الوعي بين الافراد، لهذا السبب ارتبط مفهوم الجمال بالنسبية.

في هذا الصدد تخبرنا علوم باطن الانسان – علوم الوعي – الايزوتيريك بأن: “الجمال الذي يخضع لقاعدة النسبية في العالم المرئي هو في الحقيقة خارج أطر المعادلات النسبية. فهذه (المعادلات النسبية) لا تمثل غير حاجة فكرية للتعرف الى الجمال بالمقارنة.” وتضيف هذه العلوم النبيلة: “شعور الجمال لا يزكيه غير شعور الحب. فالجمال هو وهج الحب وهالته لأن الجمال في الاصل هو وهج النور وهالته في ما وراء الارض”.

اذاً فالحب – الحب الاصيل، يزكّي شعور الجمال لأنه يحقق الاستقرار والتوازن للكيان البشري من خلال تغلغله في كلٍ من الجسد والمشاعر والفكر في ثلاثية: لذة- تفاعل- وعي. فالادراك الفائق للجمال المادي مثلا يحدث خلال ارقى حالات الاكتمال لوعي الحواس، وهذا ما يحققه الحب! فالحب هو دافع اساسي للطاقة الخلاقة في الانسان، كونه يمثل صميم إرادة التغيّر والتغيير ووقود التحدي الذي لولاه لما حقّقت النفس خطوة واحدة باتجاه التطور. فتأثير الحب في العقل هو تماماً كتأثير شعاع الشمس الذي يلامس زهرة مفتـِّحاً بُتيلاتها كي تستقبل الحياة في أبهى تعبير عن مكنون أريجها…

من هنا يمكننا القول انه إثر التوازن الذي يحققه فعل الحب في الكيان ككل، يحدث التالي تلقائياً:

–  الاحاسيس والحواس تتيقظ وتصقل…

–  المشاعر تترقرق وتتفاعل لتلتقط ارق نسمة وعي…

–  الفكر يضحي دائم التوثب والترقب والتدفق…

هذه هي ثلاثية الابداع التي تتوسع في شرحها موسوعة علوم الايزوتيريك التي بلغت ألمئة كتاباً لتاريخه بسبع لغات عالمية. بالتالي فإن الانسان الذي يحقق هذه الثلاثية في نفسه يتفتح لديه حس الجمال تلقِّياً وبثّاً، فيضحي كل ما يصدر عنه يحفر نفسه في اذهان الآخرين وافئدتهم سواء كان كتابةً او قولاً او عملاً؛ لأن مصدره ومنبعه الذات الانسانية، وتغدو حياته مثالاً يُقتدى به.

تنص علوم الايزوتيريك أيضاً بأن عصر النور والمعرفة المتقارب سيشهد تطوراً كبيراً على صعيد الجمال والذي سيعكس التطور الحاصل على مستوى الوعي الخاص والعام. أما بالنسبة لجمال المظهر (او الشكل)، فممّا لا شك فيه أن العصر الجديد لن يقتصر على جمال القوام والمحيا فحسب بل على جمال الشخصية والمقدرة على التعبير… أي جمال الوعي. بعبارة اخرى هو جمال النبض الذي يسري فهماً داخلياً كلما تفتحت المدارك لاستيعاب كل جديد، وكلما بات العطاء يوازي الاخذ ، وكلما تكثفت التجارب وتعمقت الخبرات الحياتية وتنوّعت.

الجمال حولنا كيفما تلفَّتنا، لكننا لا ندركه كلياً لافتقارنا الى المعرفة والى دقة التمييز. من هنا بات علينا ان نتحضّر للمستقبل القريب وان نهذب حس الجمال في نفوسنا عبر:

1-  اكتساب دقة التمييز من خلال تطبيق القاعدة الفكرية الرباعية: تفكير- تحليل- تمييز- استنتاج.

2-  اكتساب النظام من خلال تطبيق التنظيم والانتظام. لأن النظام بحد ذاته هو جمال في ترتيبه وتناسقه وانسجام العناصر.

3-  اكتساب الرهافة المشاعرية و الشفافية الفكرية.

كما وعلينا أيضاً ان نثابر على محاولة استشفاف الجمال في كل بقعة وفي كل مكان وفي كل شيء، سواء في الطبيعة من حولنا أو في الجماد، وحتى في مختلف اوجه القباحة. فجمال القباحة كحلو المر، يفوق بكثير حلو الحلو….

المهندسة : ندى شحادة معوّض

موضوعات ذات صله : 

أَسْرار المَاءِ وَالهَواء

شكرا للتعليق على الموضوع