محمد علي المحمود يكتب :الإسلاموية والربيع العربي.. بداية أم نهاية!
منذ أكثر من عشرين عاما، تنبّأ الباحث الفرنسي/ أولفييه روا، المتخصص بدراسة الحركات الإسلاموية، بفشل الإسلام السياسي، وذلك في كتابه: (فشل الإسلام السياسي) الذي نُشر – عربياً – بعنوان: (تجربة الإسلام السياسي)؛ مراعاة لمشاعر المتأسلمين، الذين كانوا آنذاك قد بدأوا يحصدون نتائج تضحياتهم السابقة ازدهاراً جماهيرياً واسعاً يوحي بمزيد من النجاح المتواصل. وبالتالي، كان سيصدمهم هذا الحكم المسبق على تجربتهم الناشئة/ الواعدة بالفشل، خاصة عندما يتم وضع هذا الحكم القاسي عنواناً لكتاب يتضمن مقاربة شمولية لظاهر التأسلم الحركي على امتداد العالم الإسلامي.
ليس الملفت أن أولفييه روا تنبأ بفشل/ سقوط الإسلام السياسي فحسب، بل الملفت حقاً أنه وقّت هذا الفشل بالفترة التي يحقق فيها هذا الإسلام هدفه المركزي، أي بالفترة التي يصل فيها هذا الإسلام السياسي إلى الحكم (التمكين). فالحركات المتأسلمة – في نظره – ستضع نفسها على محك الاختبار العملي لواقع إشكالي معقد؛ دون أن تمتلك الحد الأدنى من الخبرة السياسية اللازمة لذلك، بل ودون أن تكون مكونات وعيها السياسي متلائمة مع شروط العمل السياسي المعاصر. ولهذا، فمصيرها الفشل لا محالة. وعندما تفشل في إدارة الواقع، بعد أن تصل للغاية السلطوية التي كانت تراهن عليها في تاريخها النضالي الطويل؛ فلن يكون ثمة معنى لوجودها؛ لأنها – في أحسن أحوالها – ستكون صورة طبق الأصل لفشل الأنظمة السابقة التي كانت تطرح نفسها كبديل لفشلها التنموي والسياسي الطويل.
عندما اجتاحت موجات الغضب/ السخط (أو ما يُسمّى ب”الربيع العربي”) بعض البلدان العربية، كانت فرصة تاريخية لحركات التأسلم السياسي؛ إذ لأول مرة يتصاعد الغضب الجماهيري إلى هذا المستوى من الحدة ومن الشمول والاستمرار النسبي، أي إلى المستوى الذي يهدد بقاء الأنظمة الحاكمة، أو على الأقل بقاء رموزها على هرم السلطة. ولهذا، كانت – في حدود الوعي المحدود سياسياً للمتأسلمين – فرصة استثنائية لا يجوز تجاهلها؛ وإلا فقدت فرصة العمر!. ومن هنا، اتخذت قرار المشاركة بعدما تبيّنت حجم الغضب الجماعي، والأخطر، أنها – كنتيجة لمتتاليات الحدث الغضبوي (الثوري!) الذي انتهى بإسقاط رموز الأنظمة الحاكمة – اتخذت قرارها التاريخي، لا بالمشاركة في السلطة فحسب، وإنما بتسلم السلطة كاملة، من البرلمان إلى كرسي الرئاسة. وهذا ما وصفتُه آنذاك، وخاصة في التجربة الإخوانية في مصر، بأنه انتحار سياسي.
عندما نقول بفشل أو سقوط حركات التأسلم السياسي، لا يعني هذا أنها ستختفي من المشهد الاجتماعي والسياسي تماماً، وإنما المراد أن القوة الدافعة لها في الوعي الجماهيري، بوصفها (مُخلّصاً سياسياً)، ستنتهي. وبطبيعة الحال، فهي إذ أثبتت فشلها الذريع فيما كانت تطرح نفسها له بصورة أساسية، وهو كونها حلاً سياسياً للمعضل السياسي العام؛ فلا شك أنها ستتراجع في بقية الحقول الثانوية. بمعنى أن فشلها السياسي سينعكس على فاعليتها في الحقل الاجتماعي والدعوي لا محالة؛ لأن جزءاً كبيراً من التفاعل الاجتماعي والدعوي معها كان مشتبكاً مع الوعد السياسي الطوباوي الذي كان حلماً يلهب خيال جماهير المحبطين.
اليوم، وبعد أن انجلى كثير من غبار ذلك الغضب الجماهيري، وبعد أن وضعت كثير من حروب الحراك المتأسلم أوزارها، وباتت إما رهينة السجون والمنافي، أو رهينة الإحباط المتواصل من التجاهل الجماهيري الذي لم تعتد عليه، نستطيع القول: إن نبوءة أولفييه روا قد تحققت، وأن المتأسلمين فقدوا مشروعهم الذي يُبررّون به وجودهم. وبالتالي، فوعود الأصولية انقلبت من وعود مقدسة كانت تلهب خيال الجماهير، إلى (كليشيهات) للتندر الفني والإعلامي الذي يأخذ دوره في القضاء على البقية الباقية من الاحترام لأحلام كانت تحظى إلى وقت قريب بكثير من التقدير والاحترام!.
لا أحد ينكر أن حركات التأسلم السياسي كانت تحظى بكثير من التقدير الاجتماعي قبل سقوطها في تجربة الحكم (لا يعني سقوطها، نجاح البديل، يكفي أنها أصبحت كغيرها). بلاشك، هذه الحركات كانت تحوز التأييد في كثير من صور الاقتراع السياسي والاجتماعي. فجماهيرية الإسلامويين في فترة ما قبل (الربيع العربي) كانت ظاهرة ملفتة؛ بقدر ما أن تراجع هذه الجماهيرية فيما بعد الربيع كان ظاهراً، بل وربما تجاوزت موجة الرفض الغاضبة شواطئ التأسلم المسيس، لتصل – أحياناً – إلى انصراف عن مجمل الطرح الديني.
أياً كان الأمر، يبقى السؤال الذي يهمنا – هنا – هو: هل كان مصدر ذلك التقدير وذلك التأييد للمتأسلمين، قناعة اجتماعية راسخة بالجدارة السياسية لحركات التأسلم، أم كان نوعاً من الانحياز العاطفي إلى لغة الخطاب الدينية، التي تستثير كثيراً من كوامن المقدس الجمعي، وتتعالى على الواقع المدنس، في الوقت الذي تدعي أن مهمتها تصحيح (واقع هذا المدنس) اجتماعياً وسياسياً؟.
لمقاربة هذا السؤال، لا بد أن نتذكر أن جماهير الغضب إبان فورة ما يسمى ب(الربيع العربي) لم ترفع أياً من الشعارات الإسلاموية الرائجة آنذاك؛ مع أنها كجماهير، كانت من صلب الواقع الاجتماعي المتفاعل مع المتأسلمين.
أقصد: أن هذه الجماهير التي كان أكثرها سيؤيد الحركية الإسلاموية في أي اقتراع سياسي سابق أو لاحق على حدث (الثورة!)؛ كانحياز عاطفي ديني، لم يرفعوا شعارات المتأسلمين في (الثورة!) التي كانت تبدو كمنعطف سياسي تاريخي، فلماذا خالفوا التوقعات، واختاروا شعارات تحررية عامة، قد لا تعي ذاتها بوضوح، ولكنها بلا شك، لم تكن تتقاطع مع شعارات المتأسلمين؟!.
أعتقد أن تلك الجماهير كانت – في أعماقها اللاواعية – تعي أن المتأسلمين يفتقدون الجدارة السياسية الضرورية لإدارة تحول تاريخي خطير كالتحول الذي بات يلوح في الأفق، وأن ما كان تأييداً سابقاً، أو ما كان يبدو أنه تأييد، لم يكن في الواقع إلا احتماء بمعارضة سياسية تحمل رمزية المقدس الديني. بمعنى أن هذه الجماهير تدرك في أعماقها أن هؤلاء المتأسلمين يحسنون تدبير حالات الغضب السياسي كمعارضين، ولكن، ليس بالضرورة يحسنون تدبير الواقع السياسي، خاصة عندما يكون هذا الواقع السياسي مدفوعاً لإحداث متغيرات نوعية يراد لها أن تقلب معادلات الواقع الاجتماعي والسياسي بالكامل، وتنقل الوطن من حال إلى حال.
المعارضون المتأسلمون لم يكونوا هم الجبهة الصلبة/القوية للمعارضة فحسب، وإنما كانوا – قبل أحداث الربيع – يمثلون معارضة موثوقة؛ قياساً ببقية أطياف المعارضة الفاعلة في الساحة، تلك التي لم يحرز أي منها نجاحاً ملحوظاً. هذا من ناحية وجودهم كحركة معارضة فاعلة، بعيداً عن التوصيف الإيديولوجي (أي من ناحية الوجود الموضوعي المجرد). أما إذا أضفنا إلى ذلك لغة الخطاب الديني التي تحمل في طياتها عبق الأحلام التاريخية، وإيحاءات النزاهة المتضمنة بداهة، واستشعار التماهي مع قوة ماورائية يتم استحضارها كضامن للنصر الموعود، فلا شك أن كفة التأسلم سترجح. وهذا ما كان يحدث في كثير من الوقائع السابقة، ولكن، في لحظة فوران (الثورة!)، في لحظة الإحساس الجارف بحتمية التغيير، لم يحدث هذا؛ فلماذا؟.
أعتقد أن الوعي الجماهيري العام كان يتعامل مع المتأسلمين كما يتعامل (الإنسان المتدين) مع (الطبيب المتدين) مثلاً، فهو سيمدحه بلا شك، وسيؤيده، ويدعمه في مشاريعه قدر استطاعته، وينحاز – شعاراتياً – لمؤسساته الصحية، ولكنه في اللحظة الحرجة، وعندما يكون على سرير الخطر/ المرض، لن يقيم أي اعتبار لكل هذا، وسيختار الطبيب الذي يظنه الأجدر، والمؤسسة الصحية الموثوقة طبياً. وهذا هو حال المجتمعات العربية التي تتعاطف مع خطاب التدين، وتنحاز لمشروعات المتدينين في حدود الحراك الاجتماعي، ولكنها في الأوقات الحرجة، وفي الوقائع المصيرية، تدرك في أعماقها أن ليس لدى هؤلاء ما ينفع؛ فتبحث عن خيارات أكبر وأشمل، وطبعاً، قد تخطئ وتصيب، ولكنها – وهذا هو الأهم – تفصل بين العاطفة ومقتضيات المصلحة في معظم الأحيان.
إن هذا التوصيف لا ينقضه ما حدث لاحقاً في الانتخابات البرلمانية والرئاسية؛ لأن هذه الانتخابات تضع (الناخب) أمام الخيارات المتاحة فقط، والمرتبطة بالتشكلات الحزبية كقوى منضبطة وفاعلة على الأرض. بينما الحراك الثوري وشعاراته كان حراكاً تلقائياً مفتوحاً على كل الخيارات، بلا شروط ولا قيود من أي نوع؛ إلا شروط الأحلام الواعدة. وهذا ما جعل (الغاضب) يختار شعارات الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية على شعارات المتأسلمين: (الإسلام هو الحل) و(دولة الخلافة)…إلخ.
لقد كان (الربيع العربي) غضباً على الأوضاع السائدة، وحلماً بمستقبل واعد. لكنه، وبصورة غير واضحة/غير واعية، كان ثورة على الحلول التقليدية أيضاً، بما فيها الحلول التي تجترحها حركات التأسلم السياسي. كان الربيع تجاوزاً للإسلاموية؛ حتى وهو يتفاعل معها، فاعلاً ومنفعلاً، أقصد: قبل أن تدخل في لعبة السلطة. أما بعد دخولها لعبة السلطة، فقد أصبحت في وعيه من مخلفات الماضي، الماضي المنتهي بكل قبحياته وجمالياته؛ لأنه لم يعد صالحا بشهادة الواقع.
لن يبقى لهذا التأسلم جماهيرية تراهن عليها سياسياً في الخيارات المصيرية، حتى وإن بقيت له جماهيرية في نطاق الحراك الاجتماعي المحدود. والقلة القليلة التي لا تزال تعصف بها أوهام الخيارات الكبرى، لن تجد في الحراك السياسي المتأسلم أي أمل، ولهذا ستلتحق بالتنظيمات الإرهابية المسلحة كداعش والنصرة و بوكوحرام…إلخ. وهذا يعني أن الشعارات الكبرى التي طالما كان المتأسلمون يُغازلون بها خيالات الجماهير المحبطة، باتت اليوم في عهدة حركات متطرفة خارجة على الإجماع المجتمعي، ومتجاوزة لكل لخيارات المعلنة التي كان يعتمدها سدنة خطاب الإسلام السياسي.
الرياض السعودية