إلهامي الميرغني يكتب : عودة صندوق الدين والمندوب السامي إلي مصر
نستطيع وصف نوفمبر 2016 في تاريخ الاقتصادي المصري بـ ” نوفمبر الأسود ” حيث وقعت مصر إتفاقاً مع صندوق النقد الدولي تحصل مصر بمقتضاه علي قرض قيمته 12 مليار دولار تصرف علي دفعات وفقاً للالتزامات التي وقعت عليها مصر.وبمجرد توقيع الاتفاق صدر قرار التعويم الكامل للجنيه المصري فقفز سعره من 8 جنيهات إلي 20 جنيه وتفجرت موجة من الغلاء وأرتفاع الاسعار المتصاعد لازلت مستمرة حتي الآن ولا يوجد أفق لتراجعها في المستقبل القريب.
//
ومن المضحكات المبكيات تصريحات كريس جارفيس رئيس بعثة صندوق النقد لدى مصر والشرق الأوسط، في يناير 2017، إن سعر صرف العملة في مصر انخفض أكثر مما توقعه الصندوق بالنظر إلى العوامل الأساسية. كما ان شروط القرض لم تعلنها الحكومة كما يحدث في العديد من دول العالم ولكن سربها صندوق النقد الدولي لنعرف من الاعلام العالمي الشروط المجحفة التي وقعت عليها مصر والتي أدت لكل ما نعانيه من مشكلات.صرفت مصر شريحتين من القرض في نوفمبر ومارس الماضيين وتستحق الشريحة الثالثة وقيمتها 2 مليار دولار في نوفمبر القادم علي ضوء نتائج تقرير التقييم والمراجعة الثاني والذي يحلل الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها مصر ومدي إلتزامها بتعهداتها في اتفاقية القرض.
توقع الصندوق أن يصل الدين العام الخارجي إلي اكثر من 102.4 مليار دولار ( 1843 مليار جنيه).أما نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي فقد توقع الصندوق أن ترتفع من 14% في العام المالي الماضي إلى 22.9% في العام المالي الحالي، ثم تستقر ما بين 25.9% و28.2% خلال الأربعة أعوام القادمة وبحلول عام 2020/2021.
سرب الكونجرس الأمريكي تقرير في فبراير 2017 يتحدث فيه عن احتمالات افلاس مصر وكيف يمكن مواجهة هذه الأزمة.ولكن الحكومة استمرت في تنفيذ تعهداتها لصندوق النقد الدولي.لذلك فإن تشريعات مثل تحصين العقود الحكومية وقانون الاستثمار وقانون الخدمة المدنية وقانون القيمة المضافة وقانون عزل رؤساء الأجهزة الرقابية هي كلها إملاءات من المقرضين الكبار وعلي رأسهم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ونادي باريس.وكلما تم التوسع في الاقتراض فقدت مصر السيادة علي قرارها الوطني واجبرت علي الركوع أمام المخططات الأمريكية الاسرائيلية للشرق الأوسط الجديد. ففخ الديون هو كارثة تطيح بالاستقلال الوطني ويدفع تكلفتها المصريين الفقراء في تكلفة معيشتهم وفرص عملهم .
كما أن تخفيض قيمة الجنيه ورفع الدعم عن الكهرباء والمياه والغاز والمنتجات البترولية . إضافة الي الاستمرار في سياسة بيع الأصول المصرية والتي تبدأ ببنك القاهرة وشركة ميدور كأولي خطوات بيع شركات البترول هي تنفيذ مباشر لتعهدات مصر للصندوق والتي فجرت موجات متعاقبة من الغلاء المتواصل منذ ديسمبر 2016 وحتي سبتمبر 2017 . ليكتوي بنيرانه المصريين ويدفع الملايين منهم لتحت خط الفقر فيصبحوا عاجزين عن تدبير احتياجاتهم الأساسية . ورغم استمرار بعض برامج الدعم والحماية الاجتماعية مثل تكافل وكرامة ولكنها لا تصل لكل المضارين وتستمر أوضاع الأفقار علي جميع المستويات.
توسع الديون بعد 2013
منذ تولي الرئيس السيسي مسئولية الرئاسة حدث توسع كبير في الاستدانة الخارجية والداخلية. بل لقد استدعي مديرة من البنك الدولي هي الدكتورة سحر نصر لتتولي حقيبة التعاون الدولي والاقتراض ، كما عين وزير مالية لمصر من القطاع الخاص ، واطاح بمحافظ البنك المركزي وعين السيد طارق عامر محافظ للبنك المركزي واستحدث لجنة لإدارة الشئون النقدية وسعر الصرف خارج البنك المركزي، واصدر قانون يسمح بعزل روؤساء الهيئات الرقابية .
لذلك يصبح من الطبيعي أن تقبل مصر مساندة السعودية في حرب اليمن وأن تتنازل عن ملكية جزيرتي تيران وصنافير للسعودية وأن تتحدث عن السلام الدافئ مع العدو الصهيوني وأن تواصل الحكومة بيع القطاع العام وتدمير موارد الدولة.
لقد اصبحت مهمة الدولة هي المزيد من الاستدانة المحلية والخارجية واصبحت قيادات الدولة حاضرة في توقيع العقود مع الشركات الدولية مع كل ما يشوب تلك العقود من فساد . كما تم تبديد الموارد المحدودة علي مشروعات غير مدروسة مثل تفريعة قناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة.
لكن خطة إغراق مصر في الديون تصاعدت منذ تولي الرئيس السيسي ومنذ تسليم مقاليد مصر الاقتصادية لموظفي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي .
– ارتفعت الديون الداخلية لمصر من 1.6 تريليون جنيه في يونيو 2014 إلي 3.1 تريليون جنيه في مارس 2017.أي ان ما تم اقتراضه في عهد السيسي يبلغ 1.5 تريليون جنيه وهو يقترب من إجمالي الديون المحلية المتراكمة من عهد مبارك والمجلس العسكري والأخوان.
– أرتفعت الديون الخارجية وهي الأكثر خطورة من 46.1 مليار دولار في يونيو 2014 إلي 73.9 مليار دولار في مارس 2017. أي ارتفعت الديون الخارجية لما يقرب من 28 مليار دولار أو 60% من قيمة الديون الخارجية في بداية حكم السيسي. لكن الخطر الأكبر هو أن تعويم قيمة الجنيه رفعت قيمة الديون الخارجية لتصل إلي 1.3 تريليون جنيه . ويستمر الاقتراض الخارجي والذي يتوقع صندوق النقد ان يصل إلي 102 مليار دولار.
– مقابل القروض المبرمة حتي 30 يونية 2017 قدرت الموازنة العامة للدولة لعام 2017/2018 قيمة الفوائد المطلوب سدادها خلال العام بنحو 380.9 مليار جنيه تمثل 32% من المصروفات العامة للموازنة.كما سيتم سداد أقساط قروض قيمتها 265.4 مليار جنيه وتمثل 17.8 % من مصروفات الموازنة . أي أن ما يقرب من 50% من الموازنة العامة يتم توجيهه لسداد أقساط وفوائد القروض .
وترفض الحكومة فرض ضرائب تصاعدية علي الدخول لزيادة إيرادات الموازنة الحقيقية بينما تفرض ضرائب غير مباشرة تمس الفقراء ومحدودي الدخل والمزيد من التوسع في الاعفاءات الضريبية والجمركية ومنح الأراضي بالمجان للمستثمرين لتؤكد إنحيازها الواضح وعملها لصالح الأغنياء علي حساب الفقراء.وبدلاً من تنمية الزراعة والصناعة وتشغيل المصانع المتوقفة يتم تبديد القروض في مشروعات وهمية بحثاً عن أمجاد الخديوي إسماعيل .
محطات علي طريق المديونية
مجرد إبرام مصر لاتفاقية قرض الصندوق تم سلب جزء من الإرادة الوطنية ولذلك حاول حزب التحالف الشعبي الاشتراكي وأحزاب التيار الديمقراطي وقف الاتفاقية ولكن الدولة المصرية بكل أجهزتها وقفت لتمرير القرض في مجلس النواب رغم رفض بعض النواب.
– فبراير 2017 حذَّر صندوق النقد الدولي في التقرير المبدئي للوفد المسئول عن إجراءات مباحثات المراجعة النهائية لتسليم الدفعة الثانية من القرض، من عدم قدرة مصر على سداد ديونها، مشيرًا لتخوفاته من السوق العالمي بعد تولي الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”.ويعد هذا هو التحذير الثاني على التوالي من صندوق النقد الذي أعرب عن تخوفاته المكررة، حيث أشار تقرير الصندوق في يناير الماضي، بأنه يتوقع عددًا من المشاكل التي قد تواجه البرنامج المصري، والتي تتمثل في توقع خبراء الصندوق اتساع الفجوة التمويلية بمقدار 35 مليار دولارًا خلال السنوات الثلاثة المقبلة، متخوفًا من عدم قدرة مصر على سداد القرض.
– إبريل 2017 قالت المديرة العام لصندوق النقد الدولي، كريستين لاجارد، عبر بيان لها أعقب اجتماعها مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، في واشنطن، ونشرته “بلومبيرج”، إن صندوق النقد يعترف بالتضحيات والصعوبات التي يواجهها الكثير من المصريين. وأضافت لاجارد أن الصندوق يتعاون مع الحكومة المصرية والبنك المركزي، بهدف السيطرة على التضخم ودعم الخطوات التي تتخذها السلطات المصرية لحماية المصريين الأكثر فقرا وضعفا.ورغم ذلك استمر التضخم وتزايد في ظل غياب سياسات حقيقية لمواجهته وضبط الأسواق .
– مايو 2017 اختتمت بعثة صندوق النقد الدولي، زيارتها للقاهرة ، والتي كانت تستهدف إجراء المراجعة الأولى لبرنامج الإصلاح
الاقتصادي المصري، والوصول إلى اتفاق على مستوى الخبراء بين الجانب المصري وفريق الصندوق.وصرح عمرو الجارحي، وزير المالية، بأن البيان الصادر عن صندوق النقد الدولي، في ختام زيارته، أشاد بالإصلاحات التي قامت بها الحكومة المصرية، والبنك المركزي المصري، خلال الفترة السابقة، وهو الأمر الذي بدأ ينعكس في تحسن المؤشرات الاقتصادية والمالية، وتحسن درجة ثقة المستثمرين في الأوضاع الاقتصادية بمصر، وتزايد حجم التدفقات إلى داخل البلاد.بذلك بارك الصندوق الإجراءات المصرية التي أهلكت المنتجين المصريين في الزراعة والصناعة والمستهلكين خاصة من أصحاب الدخول الثابتة والموسمية.
– خلال مايو 2017 أيضا زارت مصر بعثة رسمية من الاتحاد الأوروبى برئاسة مفوض الشئون الاقتصادية والمالية آنخل هيدالجو وبعثة تتكون من 5 مسئولين رسميين، بهدف تبادل الرؤى حول إجراءات الإصلاح الاقتصادى التى تقوم بها القاهرة فى الوقت الحالى.كان الاتحاد الأوروبي قد أرسل وفد في مارس لبحث تفاصيل اتفاقية تعاون ما بين 2017 و 2020.
– منذ توقيع الاتفاقية عين صندوق النقد الدولي مندوب مقيم له مكتب دائم في البنك المركزي ولكن ظل الأمر طي الكتمان مثل الكثير من الأمور التي يعرفها الشعب من الإعلام الأجنبي في ظل مصادرة المواقع الاخبارية الحرة وتضييق الاعلام . ولكن لقاء المندوب السامي مع غادة والي وزيرة التضامن كان أول إشهار علني للوجود المستمر منذ شهور.
عودة المندوب السامي
عندما أغرق الخديوي اسماعيل مصر في الديون خلال حكمه الذي أمتد 16 سنة ( 1863 – 1879 ) والديون التي اقترضها ليجعل مصر قطعة من أوروبا ظلت مصر تسددها حتي عام 1942.وأرسل الدائنين مفتشين دائمين لدي وزارة المالية المصرية أحدهم انجليزي والآخر فرنسي. وكان ذلك مقدمة للتدخل في الشئون المصرية والتي انتهت بتعيين اللورد كرومر معتمداً علي مصر.وقد حذر الاقتصاديين الوطنيين منذ شهور بمخاطر عودة صندوق الدين والمندوب السامي، ونفت الحكومة ذلك.
حذر الكثير من الاقتصاديين والقوي الوطنية والديمقراطية من انفلات الاستدانة وما يترتب عليها من نتائج حيث تعكس البيانات والأرقام المعلنه وجود توجه للدولة المصرية بقيادة السيسي لإغراق مصر في المزيد من الديون المحلية والخارجية.وان بعض القروض تتم بضمان أصول مصرية ، وأن السيادة الوطنية كلها معرضة للخطر.
وكما علمنا بأنباء لقاء السيسي ونتنياهو والحسن في العقبة من الإعلام الخارجي، وعرفنا بتفاصيل التزامات مصر في اتفاق قرض الصندوق من الاعلام الخارجي ، عرفنا ايضا خبر تعيين السيد رضا باقر مندوب مقيم من صندوق النقد الدولي في مصر من الإعلام الخارجي.لذلك تكاثرت التساؤلات لمعرفة شخصية المندوب السامي الجديد.كما كشف الدكتور فخري الفقي الخبير السابق بالصندوق أن وجود مندوب للصندوق في مصر ليس المرة الأولي فقد سبق وجود مندوب للصندوق في مصر خلال الفترة من عام 1991 وحتى 1997 في عهد حكومة عاطف صدقي لمتابعة تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي.
وكان الإعلان عن تعيين مندوب دائم للصندوق في القاهرة، قد أثار مخاوف من تدخل مباشر في صنع السياسات أو القرارات الحكومية، وهو الأمر الذي انتقده عدد كبير من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن من هو رضا باقر .
– هو باكستاتي، “يقال” إنه شيعي، حاصل على الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا وبكالوريوس الآداب من جامعة هارفارد.وهو متخصص في قضايا الديون السيادية وإدارة التدفقات الرأسمالية وتحليل قابلية الاقتصادات في الأسواق الناشئة.
– يعمل باقر منذ 17 عامًا بصندوق النقد الدولي في مناصب متعددة، منها رئيس لبعثات رومانيا وبلغاريا، إلى جانب تعيينه في وقت سابق ممثلًا مقيمًا للصندوق في الفلبين.
– واجهت رومانيا أزمة اقتصادية كبيرة عام 2009، فلجأت إلى تلقي المساعدات والقروض من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، واقترضت 20 مليار يورو (28 مليار دولار)، وتبنت الحكومة خطة تقشفية لخفض عجز الموازنة الذي وصل إلي 7.2% من الناتج المحلي لإيصاله إلي 6.8% في 2010 ثم 4.4% في 2011، وشملت الخطة التقشفية الاستغناء عن 70 ألف موظف حكومي وخفض الأجور. كما وضعت رومانيا نظاما ضريبيا بالاتفاق مع صندوق النقد أثر بشكل مباشر على الطبقات الفقيرة في البلد، وعندما حاولت رومانيا تعديل النظام الضريبي للتخفيف من معاناة الطبقات الأشد فقرا بخفض ضريبة القيمة المضافة علي السلع الغذائية الرئيسية من 24% إلى 5% وإلغاء الضرائب المفروضة على رواتب التقاعد الأقل دخلا، اعترض صندوق النقد بحجة أن التعديل يخل بالخطة التقشفية للبلاد ويضاعف عجز الموازنة.
– المثير أن رومانيا لا تزال حتى الآن تعيش وضعا اقتصاديا مترديا، وسياسيا غير مستقر، والمظاهرات ضد أداء الحكومة المتردي، وعدم مكافحتها للفساد كانت مستمرة حتى وقت قريب وبفضل تطبيق توجيهات السيد رضا باقر وصندوقه.
إن تعيين رضا باقر مندوب مقيم للصندوق في مصر يعكس عدم إرتياح صندوق النقد الدولي للخطوات التي تطبقها الحكومة المصرية.والضغط من أجل الإسراع في وتيرة تنفيذ روشتة الصندوق والتي تعمل علي المزيد من الافقار والتبعية.
إن وجود مندوب دائم للصندوق يتابع ويراقب كل تصرفات الحكومة المصرية لا يمنع وصول بعثات متتالية للرقابة من الصندوق . منها البعثة التي تصل في نهاية الشهر الحالي وتستمر حتي نهاية الأسبوع الأول من نوفمبر وتضع التقرير الذي يتقرر علي أساسه صرف الشريحة الثالثة من القرض والتي تصل إلي أثنين مليار دولار.
إن استمرار سياسات الاقتراض المحلي والخارجي واهدار الموارد الطبيعية والتفريط في الاصول المملوكة للدولة هو جزء من خطة إفقار وتركيع مصر والتي تنفذها الحكومات المتعاقبة بكل دقة ويراقب الصندوق سرعتها وقوتها حتي أصبحت مصر مجرد لاعب ثانوي في مخططات الشرق الأوسط الأمريكي الصهيوني الجديد.ويظل الكادحين المصريين يدفعون ثمن التبعية الباهظ وحدهم.
//