مطبات طبيعية “قصة قصيرة”

عادت من عملها فى تمام الساعة الثامنة مساء ، مرهقة كعادتها …. فطريق العودة الى منزلها استغرق كما هو الحال كل ليلة، ما يقرب من ساعتين بالسيارة …..

وَيَا ليته كان طريقاً ممهداً سهلاً ، لكنه كان طريقاً وعراً صعباً يقتطعه عدة مرات مناطق انشاء كثيرة … مطلع كوبرى ما … منزل كوبرى ما … توسيع طريق ما … تغيير مسار ما …

فتظل تمر بين الاقماع المرورية الحمراء كأنها تخضع من جديد لاختبار قيادة معقد .

وتظل تجاهد وتعافر لتتفادى الاصطدام بسيارة ما او توكتوك ما او سيارة نقل ما ، يتسابقون ويتسارعون هنا وهناك ، فتشعر وكأنها داخل حلبة العربات الكهربائية فى احد الملاهى .

لم تعد تبالى بالاسباب والاهداف وراء تلك الفوضى العارمة ، للتطوير كانت او للتخريب !!!!

كل ما يؤرقها هو انها تقود فى هذا الزحام اللانهائي يومياً ولا تملك من أمرها شيئاً سوى إغلاق جميع نوافذ السيارة لتحد من صوت الضوضاء ، والاستماع الى الاغانى القديمة فى الراديو وبالأخص أغانى “العندليب” …

فسار “حليم تايم” وقتاً مقدساً عندها لا يعكر صفوها فيه شيئاً ، فلا ترد على الهاتف مهما كان المتصل ولا تحاور أحداً مهما كانت الأسباب ولا تفكر فى شىء على الإطلاق سوى كلمات الاغانى وصوت العندليب العذب الحنون .

عادت لتجد اولادها الثلاثة ، كل مختلياً بنفسه فى بقعته المفضلة … الابنة الكبرى متقوقعة داخل “ساند باج” ، تحدق فى اللاب توب و تستمع الى الموسيقى عبر سماعات لا تفارق أذنيها طالما هى مستيقظة ….

والابنة الوسطى جالسة على مكتبها مرتدية نظارتها الطبية ، تكسو ملامح وجهها الجدية والتركيز ، بينما تسلط “اباجورة” بنفسجية اللون ضوءها على الأوراق والكتب والكراسات المتناثرة فوق سطح المكتب …

اما الابن الأصغر فوجدته بحجرته، مستلقياً كعادته على سريره وفى يده كتاب ما لمادة ما ، يحمله برعونة وعدم اكتراث كأنه كتاب ياباني اسقط فى يده ،لا يفقه فى حروفه شيئاً !!!!

دخلت حجرتها لتبدل ملابسها سريعاً وتؤدى صلاة العشاء ، قبل ان تفقد اخر ما تبقى لها من طاقة ، فتبعتها ابنتها الوسطى التى حدثتها بصوت مختنق ” مامى انا جبت نمرة وحشة فى امتحان الماث …. وحضرتك هتزعلى منى … انا أسفه يا مامى” ودخلت فى نوبة من البكاء الشديد ….

كانت الام أضعف ما يكون امام دموع اولادها ، وبالأخص دموع ابنتها الوسطى لانها دوماً ما تكون دموع رقيقة هادئة صامتة….

” لا يا حبييتى متعيطيش …. أوعى تعيطى أبداً … مش عملتى اللى عليكى وذاكرتى وتعبتى … يبقى خلاص”

“لا يا مامى ، انا مش عارفه مالى السنه دى … حاسه ان مستوايه بينزل، ومش شاطره … انا بقيت خايبه اوى “

“مين قال … ايه الكلام الفارغ ده … هاتى ورقه وقلم وتعالى نكتب نمرك كلها من اول السنه فى كل المواد ونشوف الخيابة “

وقامت الام برسم جدول كتبت فيه كل المواد بالترتيب و فى الخانة المقابلة لكل مادة تدون كل الدرجات التى حازت عليها الابنة منذ بداية العام الدراسى …. فكانت جميع الدرجات مرضية جداً فى ما عدا مادة الحساب فى اختبار واحد من مجموع ثلاثة ومادة الكيمياء فى امتحان واحد من مجموع اثنان ….

وهنا نظرت الام لابنتها ، من تحت نظارة القراءة نظرة يملأها عتاب الام المحبة لأولادها ” هى دى النمر الوحشة …. هو ده الانهيار فى المستوى … هى دى الخيابة ….

يا حبيبتى صعب اوى … لا مش صعب ده مستحيل ان الانسان يفضّل محافظ على مستوى أداء واحد طول الوقت … صعب يفضّل يحرز درجات عاليه طول الوقت … ويبقى متفوق فى كل حاجه … صعب … احنا مش روبوت ولا كمبيوتر … طب ده حتى الكمبيوتر بيهنج لو اشتغل كتير او حملنا عليه فوق طاقته …. يبقى احنا مش هنهنج …

أسوأ حاجه انك تجلدى نفسك باستمرار كده وتتشدى وتغذى عقلك بأفكار سلبيه ملهاش اى لازمة ولا مبرر … انا خايبه .. انا ضايعه … اسمحى لنفسك بمساحة من الانحراف “

وهنا انفجرت الابنة ضاحكة” ههههههههههه انحراف …. هههههه … عايزانى انحرف “

” لا يا لمضة … قصدى تنحرفى فى أدائك دراسياً … أدى لنفسك الحق فى مساحة صغيرة من التذبذب فوق وتحت مستواكى المعتاد ، من الانحدار قليلاً كل فترة والتانية .

عادى جداً … انا قدامك اهو بشتغل … تفتكرى كل يوم بيعدى عليه زى التانى … بأدى فيه بنفس الكفاءه … بنجز فيه بنفس المستوى والجودة … لا طبعاً …. مستحيل .

يا حبيبتى …العمر قدامك طويل ودرس مهم لازم تتعلميه من دلوقتي انك تغفرى لنفسك  بعض الإخفاقات وتتقبلى القليل من السقوط بين الحين والآخر وتتعلمى انك ترمى ورا ضهرك ومتقفيش كتير عند اللحظات دى وتبصى قدامك وبس…

مش دايماً هيكون الطريق ممهد ومرصوف عشان حضرتك تعدى عالجاهز … لا … اتعودى ان طريقك هيكون مليان مطبات ومنحدرات …. الشطارة انك – “انجوى ذَا رايد”  وفى الاخر توصلى بالسلامة .

دينا ابو الوفا
دينا ابو الوفا

شكرا للتعليق على الموضوع