يوميات دينا ابو الوفا … عارفين

كانت الساعة قد اقتربت من السادسة والربع مساء ، حين دخلت الام الى منزلها مسرعة كى تلحق بموعد الافطار … فلم يتبق سوى نصف الساعة على آذان المغرب وعليها فى تلك المدة الوجيزة ان تقوم بتحضير وجبة الافطار ….. كيف ذلك لم تكن تعلم !!!

كانت دوماً سريعة ونشطة داخل مطبخها ولكن ان تنتهى من طهى قائمة اليوم والمكونة من الحساء والأرز والخضار والكفتة والسلطة الخضراء فى هذا الوقت الضيق كان أمراً صعباً

ربما يحتاج الى معجزة ….

انطلقت مباشرة الى داخل المطبخ ، بعدما ألقت بحقيبة يدها وحقيبة اللاب توب على الارض امام باب المطبخ ….

لم تكن تلك عادتها فهى منظمة ومرتبة بدرجة مبالغ فيها -حتى ان كل من حولها استمروا فى اتهامها بانها حتماً ولابد تعانى من مرض “الوسواس القهرى ” – ولكن للضرورة احكام

فنصف ساعة لا تترك المجال لأي شئ من هذا

وبينما هى منهمكة فى تحضير الطعام واشعال جميع عيون الموقد كى تنجز المهمة دون تاخير ، دخلت عليها ابنتها الكبرى وقد كسى وجهها المشاغب المتمرد بطبيعته ، علامات القلق والتوتر والحيرة

“ماما ” فلم تجب الام …. ” يا ماما “

” ايه يا بنتى عايزة ايه … مش وقتك خالص”

لم تبال الابنة برد والدتها الذى هدُفَ الى التخلص منها وتأجيل اى حوارات فى الوقت الراهن ، فاستطردت قائلة بصوت مكتوم

“عندى خبر ليكى …. هو خبر وحش … هيزعلك منى اوى … وانا آسفة “

تركت الام كل شئ من يدها والتفتت الى ابنتها وقالت مازحة “ايه سقطتى فى مادة ايه !!”

“سقطت فى امتحان دبلومة اللغة ….”

وانهالت دموعها وارتعشت شفتاها وبهت وجهها حزناً

“سقطتى !!!!”

” ايوه ….”

سقط الخبر على الام كالصاعقة ، تاركاً إياها مشلولة فى مكانها من هول الصدمة ، فتلك هى المرة الاولى التى ترسب فيها ابنتها منذ التحاقها بالمدرسة منذ احد عشر عاماً

لم تقو على الرد ….وهى التى اشتهرت بسرعة البديهة المغلفة بالحكمة والرزانة ، والقدرة على إيجاد الاجابات المناسبة لأى امر فى لحظتها بذكاء بالغ مستعينة بخبراتها السابقة فى مواقف شبيهة ، والاتزان وترتيب الافكار على الفور دون عناء …. فماذا حدث !!! اين الفطنة، اين الحنكة ، اين التمكن !!!!

فما كان منها الا ان صمتت ، واستدارت لتكمل ما كانت تفعل …

“ماما … سكتى ليه ….”

“هقول ايه “

” يعنى ايه تقولى ايه …. قولى اى حاجة … سكوتك ده بيضايقنى أصلا اكتر ما انا متضايقة

الامتحان كان خمس اجزاء وانا جبت فى أربعة منهم A+ والجزء الخامس هو اللى سقطت فيه لانى فهمته غلط فجاوبت غلط ، ولانه لازم انجح فى كل الأجزاء ، سقطت فى الامتحان العام …. فهمتى “

لم تستطع الام ان تعاتب ابنتها او توبخها ، فمن منا لا يخطئ ، من منا لم تخذله نتيجة امتحان ما حتى بعد ان بذل أقصى ما عنده من مجهود ….

كيف تعاتبها وهى لا تنكف عّن تلقينها عبارات مثل ” اعملى اللى عليكى والنتيجة دى بتاعة ربنا “

“اتعبى وربنا اكيد هيجازيكى على تعبك … فالله لا يضيع اجر من احسن عملاً”

كيف توبخها وهى على مشارف خوض الاختبارات التجريبية المقررة على فصلها الدراسى فى غضون عدة ايّام ، والتى ترسل اليهم من الخارج ، كنوع من التدريب والتحضير للاختبارات النهائية …..

وان لم توبخها وتعنفها فماذا تقول !؟ يجب ان تجد شيئاً يخرج ابنتها من حالة الاحباط والانكسار سريعاً حتى تستأنف المذاكرة

فالسقوط فى بئر ” ما كان وما حدث ” والاستسلام للغرق فيه ، قد يكلفها “ما هو آت”

“خلينا نفطر حبيبتى وبعدين نتكلم … قدر الله وما شاء فعل”

أذن المغرب ، وتناول الجميع الطعام فى سكوت تام …. بعدها دخلت الابنة على والدتها غرفة نومها ” انا عارفه انك زعلانه وانا كمان زعلانه … بس اعمل ايه طيب … والله قفلت الامتحان بدليل الأربعة A+ … “

“خلينا نفكر بالراحة مع بعض يا حبيبتى ..

اولا خلينا نتفق ان اللى حصل حصل … صح “

“صح “

“ومش بايدينا نغيره صح !!”

“صح”

“لكن بايدينا اللى جاى … ونقدر نتحكم فيه … بعد طبعاً مشيئة ربنا سبحانه وتعالى مظبوط”

“مظبوط”

” خلينا نتكلم بالعقل … أولاً خلينا نتفق ان زى ما بنتعلم نتقبل المكسب لازم نتعلم نتقبل كمان الخسارة من حين لآخر … هى دى الحياة حبة فوق وحبة تحت …. على رأى عدوية ……. “

وأطلقت ضحكة تلاشت بها الأجواء الكئيبة

” قوليلى الامتحان ده محسوب فى درجات السنه دى !”

“لا “

“طيب داخل فى درجات الثانوية العامة “

“لا “

” طيب هينفع تدخلى تمتحنيه تانى السنه الجاية “

“اه طبعا “

” وممكن تدخليه قبل الجامعة صح !”

“صح “

“هيفرق معاكى لو قررتى تدخلى جامعه فى مصر “

” لا … بس حضرتك عارفه انى مش عايزة جامعة فى مصر … “

” انا بتكلم فى اسوأ الفروض … اسوأ حاجة ممكن تحصل أنك متعديش وتدخلى جامعة هنا … يعنى من الاخر مش ده اللى هيحدد هتدخلى الجامعة ولا لا … كلامى تمام !”

” اه تمام “

“لكن اللى هيحدد دخولك الجامعة هو الامتحانات اللى هتدخليها كمان كام يوم … لانها بتتحسب كجزء من التقدير النهائي وبتهيأك لامتحانات السنه الاخيرة… انا كده فاهمه صح !؟

” اه “

” طيب تمام … يبقى الموضوع بسيط

خلينا نتفق ان ربنا دايماً بيعمل الصالح والخير ،،، وله حكمة اكيد فى النتيجة دى …

انت خسرتى جولة لكن مخسرتيش المباراة

ويمكن عشان متخسريش المباراة النهائية ربنا عمل كده …

يمكن عايز يقرصك قرصة صغيرة عشان تذاكرى احسن وتلتفتى لدروسك وتاخدى الموضوع جد اكتر …

انت فى الفترة الاخيرة ريحتى وشديتى الفيشة

ويمكن دى رسالة منه عشان يقولك خدى بالك … وصلى الفيشة واشتغلى وبلاش تطفى

اختار ينبهك بحاجة مش هتاثر عليكى فى العموم ولا الضرر منها كبير … لكن فى الاخر هى عبرة وجرس إنذار عشان تفوقى للأهم …”

“انا فعلا ريحت الفترة اللى فاتت”

“تمام … يبقى نعمل ايه … نرمى ورا ضهرنا النتيجة دى خالص … نسيبها على جنب دلوقتى … مش وقتها خالص …. اركنيها عندك على الرف اللى فوق من المكتبة وقوليلها … بصى رجعالك … خليكى مكانك هفوق لك بعدين ….

والتفتى للأهم دلوقتى … اللى خسارته هتخسرك كتير وهيبقى صعب تعوضيها

ما هو مش معقولة انى عشان اتكعبلت فى حتة زلطة صغيرة ، افضل اعيط واندب حظى ، لحد ما البس فى جبل قدامى بدل ما اتسلقه واعديه وأوصل للقمة … عمرك شفتى حد اتكعبل فى زلطة صغيرة وفضل يندب حظه …. الصح ايه !!! الصح انى اشوط الزلطة بعيد على جنب وأكمل طريقى عادى جداً ولا كأن حاجة حصلت … لكن زلطة تخسرنى الوصول للقمة !!! ده اسمه هبل ..فهمتى !!!!”

“فهمت يا مامى”

“جدعة … قومى بقى يا جدعة … اتسلقى الجبل واوصلى للقمة لأنك تستحقيها “

ابتسمت ابنتها اخيراً “مرسى يا مامى”

وعادت الى حجرتها وجلست على مكتبها لتستأنف مذاكرتها ، فتبعتها والدتها وقبلتها قبلة على جبينها “ربنا ينجحك حبيبتى ويكتب لك الخير كله ان شاء الله “

دينا ابو الوفا
دينا ابو الوفا

اقرأ للكاتبة : 

يوميات دينا ابو الوفا … عارفين

شكرا للتعليق على الموضوع